بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

ومنها أن يكون النكاح الثاني صحيحا حتى لو تزوجت رجلا نكاحا فاسدا ودخل بها لا تحل للأول ; لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة ، ومطلق النكاح ينصرف إلى ما هو نكاح حقيقة ولو كان النكاح الثاني مختلفا في فساده ، ودخل بها لا تحل للأول عند من يقول بفساده لما قلنا ، فإن تزوجت بزوج آخر ومن نيتها التحليل فإن لم يشرطا ذلك بالقول ، وإنما نويا ، ودخل بها على هذه النية حلت للأول في قولهم جميعا ; لأن مجرد النية في المعاملات غير معتبر فوقع النكاح صحيحا لاستجماع شرائط الصحة فتحل للأول كما لو نويا التوقيت ، وسائر المعاني المفسدة .

وإن شرط الإحلال بالقول ، وأنه يتزوجها لذلك ، وكان الشرط منها فهو نكاح صحيح عند أبي حنيفة ، وزفر ، وتحل للأول ، ويكره للثاني ، والأول .

وقال أبو يوسف : النكاح الثاني فاسد ، وإن وطئها لم تحل للأول وقال محمد : النكاح الثاني صحيح ولا تحل للأول .

( وجه ) قول أبي يوسف أن النكاح بشرط الإحلال في معنى النكاح المؤقت ، وشرط التوقيت في النكاح يفسده ، والنكاح الفاسد لا يقع به التحليل ، ولمحمد أن النكاح عقد مؤبد فكان شرط الإحلال استعجال ما أخره الله تعالى لغرض الحل فيبطل الشرط ، ويبقى النكاح صحيحا لكن لا يحصل به الغرض كمن قتل مورثه أنه [ ص: 188 ] يحرم الميراث لما قلنا .

كذا هذا ، ولأبي حنيفة أن عمومات النكاح تقتضي الجواز من غير فصل بين ما إذا شرط فيه الإحلال أو لا فكان النكاح بهذا الشرط نكاحا صحيحا فيدخل تحت قوله تعالى { حتى تنكح زوجا غيره } فتنتهي الحرمة عند وجوده إلا أنه كره النكاح بهذا الشرط لغيره ، وهو أنه شرط ينافي المقصود من النكاح ، وهو السكن ، والتوالد ، والتعفف ; لأن ذلك يقف على البقاء ، والدوام على النكاح ، وهذا - والله أعلم - معنى إلحاق اللعن بالمحلل في قوله صلى الله عليه وسلم { لعن الله المحلل ، والمحلل له } .

وأما إلحاق اللعن بالزوج الأول ، وهو المحلل له فيحتمل أن يكون لوجهين : أحدهما : أنه سبب لمباشرة الزوج الثاني هذا النكاح لقصد الفراق ، والطلاق دون الإبقاء ، وتحقيق ما وضع له ، والمسبب شريك المباشر في الاسم ، والثواب في التسبب للمعصية ، والطاعة .

والثاني أنه باشر ما يفضي إلى الذي تنفر منه الطباع السليمة ، وتكرهه من عودها إليه من مضاجعة غيره إياها واستمتاعه بها ، وهو الطلقات الثلاث إذ لولاها لما وقع فيه فكان إلحاقه اللعن به لأجل الطلقات والله - عز وجل - أعلم .

وأما قول أبي يوسف إن التوقيت في النكاح يفسد النكاح فنقول : المفسد له هو التوقيت نصا .

ألا ترى أن كل نكاح مؤقت فإنه يتوقت بالطلاق ، وبالموت ، وغير ذلك ولم يوجد التوقيت نصا ، فلا يفسد ، وقول محمد إنه استعجال ما أجله الله تعالى ممنوع ، فإن استعجال ما أجله الله تعالى لا يتصور ; لأن الله تعالى إذا ضرب لأمر أجلا لا يتقدم ولا يتأخر فإذا طلقها الزوج الثاني تبين أن الله تعالى أجل هذا النكاح إليه ، ولهذا قلنا إن المقتول ميت بأجله خلافا للمعتزلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية