بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما يتيمم به فقد اختلف فيه ، قال أبو حنيفة ومحمد : يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض وعن أبي يوسف روايتان : في رواية بالتراب والرمل ، وفي رواية لا يجوز إلا بالتراب خاصة وهو قوله الآخر ، ذكره القدوري وبه أخذ الشافعي ، والكلام فيه يرجع إلى أن الصعيد المذكور في الآية ما هو ؟ فقال أبو حنيفة ومحمد : هو وجه الأرض وقال أبو يوسف : هو التراب المنبت واحتج بقول ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر الصعيد بالتراب الخالص ، وهو مقلد في هذا الباب ; ولأنه ذكر الصعيد الطيب ، والصعيد الطيب هو الذي يصلح للنبات وذلك هو التراب دون السبخة ونحوها ، ( ولهما ) أن الصعيد مشتق من الصعود وهو العلو ، قال الأصمعي : فعيل بمعنى فاعل ، وهو الصاعد .

وكذا قال ابن الأعرابي : إنه اسم لما تصاعد ، حتى قيل للقبر صعيد لعلوه وارتفاعه وهذا لا يوجب الاختصاص بالتراب بل يعم جميع أنواع الأرض ، فكان التخصيص ببعض الأنواع تقييدا لمطلق الكتاب ، وذلك لا يجوز بخبر الواحد فكيف بقول الصحابي ، والدليل على أن الصعيد لا يختص ببعض الأنواع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { عليكم بالأرض } من غير فصل ، وقال { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } واسم الأرض يتناول جميع أنواعها ، ثم قال { : أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت } .

وربما تدركه الصلاة في الرمل ، وما لا يصلح للإنبات فلا بد وأن يكون بسبيل من التيمم به والصلاة معه بظاهر الحديث ، ( وأما ) قوله سماه طيبا فنعم لكن الطيب يستعمل بمعنى الطاهر وهو الأليق ههنا ; لأنه شرع مطهرا ، والتطهير لا يقع إلا بالطاهر مع أن معنى الطهارة صار مرادا بالإجماع ، حتى لا يجوز التيمم بالصعيد النجس فخرج غيره من أن يكون مرادا ، المشترك لا عموم له ، ثم لا بد من معرفة جنس الأرض ، فكل ما يحترق بالنار فيصير رمادا كالحطب والحشيش ونحوهما ، أو ما ينطبع ويلين كالحديد والصفر والنحاس والزجاج ، وعين الذهب والفضة ونحوها فليس من جنس الأرض ، وما كان بخلاف ذلك فهو من جنسها ، ثم اختلف أبو حنيفة ومحمد فيما بينهما ، فقال أبو حنيفة : يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض ، التزق بيده شيء أو لا .

وقال محمد : لا يجوز إلا إذا التزق بيده شيء من أجزائه ، فالأصل عنده أنه لا بد من استعمال جزء من الصعيد ، ولا يكون ذلك إلا بأن يلتزق بيده شيء ، ( وعند ) أبي حنيفة هذا ليس بشرط ، وإنما الشرط : مس وجه الأرض باليدين وإمرارهما على العضوين .

وإذا عرف هذا فعلى قول أبي حنيفة يجوز التيمم بالجص والنورة [ ص: 54 ] والزرنيخ والطين الأحمر والأسود والأبيض ، والكحل والحجر الأملس والحائط المطين والمجصص والملح الجبلي دون المائي والمرداسنج المعدني والآجر والخزف المتخذ من طين خالص ، والياقوت والفيروزج والزمرد والأرض الندية والطين الرطب ، .

( وعند ) محمد إن التزق بيده شيء منها بأن كان عليها غبار أو كان مدقوقا يجوز ، وإلا فلا ، وجه قول محمد أن المأمور به استعمال الصعيد ، وذلك بأن يلتزق بيده شيء منه ، فأما ضرب اليد على ما له صلابة وملاسة من غير استعمال جزء منه ، فضرب من السفه ، ولأبي حنيفة أن المأمور به هو التيمم بالصعيد مطلقا من غير شرط الالتزاق ، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل .

وقوله : " الاستعمال شرط " ممنوع ; لأن ذلك يؤدي إلى التغيير الذي هو شبيه المثلة ، وعلامة أهل النار ولهذا أمر بنفض اليدين بل الشرط إمساس اليد المضروبة على وجه الأرض على الوجه ، واليدين تعبدا غير معقول المعنى لحكمة استأثر الله تعالى بعلمها ، ولا يجوز التيمم بالرماد بالإجماع ; لأنه من أجزاء الخشب ، وكذا باللآلئ سواء كانت مدقوقة أو لا ; لأنها ليست من أجزاء الأرض بل هي متولدة من الحيوان .

ويجوز التيمم بالغبار بأن ضرب يده على ثوب أو لبد أو صفة سرج فارتفع غبارا ، وكان على الذهب أو الفضة أو على الحنطة أو الشعير أو نحوها غبار فتيمم به أجزأه في قول أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف لا يجزيه ، وبعض المشايخ قالوا إذا لم يقدر على الصعيد يجوز عنده والصحيح أنه لا يجوز في الحالين .

وروي عنه أنه قال وليس عندي من الصعيد ، وهذا وجه قوله : أن المأمور به التيمم بالصعيد وهو اسم للتراب الخالص ، والغبار ليس بتراب خالص بل هو تراب من وجه دون وجه ، فلا يجوز به التيمم ، ( ولهما ) أنه جزء من أجزاء الأرض إلا أنه لطيف فيجوز التيمم به ، كما يجوز بالكثيف بل أولى .

وقد روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان بالجابية فمطروا فلم يجدوا ماء يتوضئون به ولا صعيدا يتيممون به ، فقال ابن عمر : لينفض كل واحد منكم ثوبه أو صفة سرجه ، وليتيمم وليصل ، ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعا ، ولو كان المسافر في طين وردغة لا يجد ماء ولا صعيدا ، وليس في ثوبه وسرجه غبار لطخ ثوبه أو بعض جسده بالطين ، فإذا جف تيمم به ، ولا ينبغي أن يتيمم بالطين ما لم يخف ذهاب الوقت ; لأن فيه تلطيخ الوجه من غير ضرورة فيصير بمعنى المثلة .

وإن كان لو تيمم به أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد ; لأن الطين من أجزاء الأرض .

وما فيه من الماء مستهلك ، وهو يلتزق باليد فإن خاف ذهاب الوقت تيمم وصلى عندهما ، وعلى قياس قول أبي يوسف يصلي بغير تيمم بالإيماء ، ثم يعيد إذا قدر على الماء أو التراب كما لمحبوس في المخرج إذا لم يجد ماء ولا ترابا نظيفا على ما ذكرنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية