بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ويستوي في الرضاع المحرم قليله وكثيره عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم .

وروي عن عبد الله بن الزبير وعائشة رضي الله عنهما إن قليل الرضاع لا يحرم وبه أخذ الشافعي فقال : لا يحرم إلا خمس رضعات متفرقات ، واحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت { : كان فيما نزل عشر رضعات يحرم ، ثم صرن إلى خمس فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ } .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا تحرم المصة والمصتان ولا الإملاجة والإملاجتان } ولأن الحرمة بالرضاع لكونه منبتا للحم ومنشزا للعظم وهذا المعنى لا يحصل بالقليل منه فلا يكون القليل محرما ولنا قوله عز وجل { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } مطلقا عن القدر .

وروي عن علي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا : قليل الرضاع وكثيره سواء ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : الرضعة الواحدة تحرم . وروي أنه لما بلغه أن عبد الله بن الزبير يقول : لا تحرم الرضعة والرضعتان ، فقال : قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير وتلا قوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } . وروي أنه لما بلغه أن عائشة رضي الله عنها تقول : لا تحرم المصة والمصتان فقال : حكم الله تعالى أولى وخير من حكمها .

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد قيل : إنه لم يثبت عنها وهو الظاهر فإنه روي أنها قالت : توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما يتلى في القرآن فما الذي نسخه ولا نسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ولا [ ص: 8 ] يحتمل أن يقال الرضاع شيء من القرآن ولهذا ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء أن هذا حديث منكر وأنه من صيارفة الحديث ولئن ثبت فيحتمل أنه كان في رضاع الكبير فنسخ العدد بنسخ رضاع الكبير .

وأما حديث المصة والمصتين فقد ذكر الطحاوي أن في إسناده اضطرابا ; لأن مداره على عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها .

وروي أنه سئل عروة عن الرضاعة فقال ما كان في الحولين وإن كان قطرة واحدة محرم والراوي إذا عمل بخلاف ما روى أوجب ذلك وهنا في ثبوت الحديث ; لأنه لو ثبت عنده لعمل به على أنه إن ثبت فيحتمل أن الحرمة لم تثبت لعدم القدر المحرم ويحتمل أنها لم تثبت ; لأنه لا يعلم أن اللبن وصل إلى جوف الصبي أم لا وما لم يصل لا يحرم فلا يثبت لعدم القدر المحترم ولا تثبت الحرمة بهذا الحديث بالاحتمال ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما إذا عقى الصبي فقد حرم حين سئل عن الرضعة الواحدة هل تحرم ; لأن العقي اسم لما يخرج من بطن الصبي حين يولد أسود لزج إذا وصل اللبن إلى جوفه يقال هل عقى صبيكم أي هل سقيتموه عسلا ليسقط عنه عقيه إنما ذكر ذلك ليعلم أن اللبن قد صار في جوفه ; لأنه لا يعقى من ذلك اللبن حتى يصير في جوفه ويحتمل أنه كان ذلك في إرضاع الكبير حين كان محرما ثم نسخ .

وأما قوله : إن الرضاع إنما يحرم لكونه منبتا للحم منشزا للعظم فنقول : القليل ينبت وينشز بقدره فوجب أن يحرم بأصله وقدره على هذه الأحاديث إن ثبتت فهي مبيحة وما تلونا محرم والمحرم يقضي على المبيح احتياطا ; لأن الجرعة الكثيرة عنده لا تحرم ومعلوم أن الجرعة الواحدة الكثيرة في إثبات اللحم وإنشاز العظم فوق خمس رضعات صغار فدل أنه لا مدار على هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية