بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما بيان ما تصح تسميته من البدل وما لا تصح ، وبيان حكم التسمية وفسادها : فالبدل لا يخلو إما أن يكون عين مال ، وإما أن يكون منفعة وهي الخدمة ، فإن كان عين مال ، فإما أن يكون بعينه بأن كان معينا مشارا إليه ، وإما إن كان بغير عينه بأن كان مسمى غير مشار إليه ، فإن كان بعينه عتق إذا قبل ; لأن عدم ملكه لا يمنع صحة تسميته عوضا ; لأنه مال معصوم متقوم معلوم ، ثم إن أجاز المالك سلم عينه إلى المولى ، وإن لم يجز فعلى العبد قيمة العين ; لأن تسميته قد صحت ، ثم تعذر تسليمه لحق الغير فتجب قيمته إذ الإعتاق على القيمة جائز ، كما إذا قال : أعتقتك على قيمة رقبتك ، أو على قيمة هذا الشيء فقبل يعتق ، وكذا عدم الملك في باب البيع لا يمنع صحة التسليم أيضا ، حتى لو اشترى شيئا بعبد مملوك لغيره صح العقد ، إلا أن هناك إن لم يجز المالك يفسخ العقد ، إذ لا سبيل إلى إيقاعه على القيمة ، إذ البيع على القيمة بيع فاسد ، وههنا لا يفسخ لإمكان الإيقاع على القيمة ، إذ الإعتاق على القيمة إعتاق صحيح فتجب قيمته كما في النكاح والخلع والطلاق على مال ، وإن كان بغير عينه ، فإن كان المسمى معلوم الجنس والنوع والصفة كالمكيل والموزون فعليه المسمى ، وإن كان معلوم الجنس والنوع مجهول الصفة كالثياب الهروية ، والحيوان من الفرس والعبد والجارية فعليه الوسط من ذلك ، وإذا جاء بالقيمة يجبر المولى على القبول ; لأن جهالة الصفة لا تمنع صحة التسمية فيما وجب بدلا عما ليس بمال كالمهر ، وبدل الخلع والصلح من دم العمد ، وإن كان مجهول الجنس كالثوب والدابة والدار فعليه قيمة نفسه ; لأن الجهالة متفاحشة ففسدت التسمية ، والأصل فيه أن كل [ ص: 76 ] جهالة تزيد على جهالة القيمة توجب فساد التسمية كالجهالة الزائدة على جهالة مهر المثل في باب النكاح ، والكلام فيه كالكلام في المهر ، وقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في كتاب النكاح ، إلا أن هناك إذا فسدت التسمية يجب مهر المثل وههنا تجب قيمة العبد ; لأن الموجب الأصلي هناك مهر المثل ; لأن قيمة البضع وهو العدل والمصير إلى المسمى عند صحة التسمية ، فإذا فسدت صير إلى الموجب الأصلي ، والموجب الأصلي ههنا قيمة العبد ; لأن الإعتاق على مال معاوضة من جانب العبد ، ومبنى المعاوضة على المعادلة ، وقيمة الشيء هي التي تعادله إلا أن عند صحة التسمية يعدل عنها إلى المسمى ، فإذا فسدت وجب العوض الأصلي وهو قيمة نفس العبد ، وإن كان البدل منفعة وهي خدمته بأن قال لعبده : أنت حر على أن تخدمني سنة ، فقبل فهو حر حين قبل ذلك ، والخدمة عليه يؤخذ بها ; لأن تسمية الخدمة قد صحت فيلزمه المسمى ، كما إذا أعتقه على مال عين ، فإن مات المولى قبل الخدمة بطلت الخدمة ; لأنه قبل الخدمة للمولى ، وقد مات المولى لكن للورثة أن يأخذوا العبد بقيمة نفسه ، وإن كان قد خدم بعض السنة ، فلهم أن يأخذوه بقدر ما بقي من الخدمة ، وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وقال محمد : يؤخذ العبد بقيمة تمام الخدمة إن كان لم يخدم ، وإن كان قد خدم بعض الخدمة يؤخذ بقيمة ما بقي من الخدمة ، وكذلك إذا قال : أنت حر على أن تخدمني أربع سنين فمات المولى قبل الخدمة ، على قولهما على العبد قيمة نفسه ، وعلى قول محمد عليه قيمة خدمته أربع سنين ، ولو كان العبد خدمه ، ثم مات المولى ، فعلى قولهما على العبد ثلاثة أرباع قيمة نفسه ، وعلى قول محمد عليه قيمة خدمته ثلاث سنين ، وكذلك لو مات العبد وترك مالا يقضى لمولاه في ماله بقيمة نفسه عندهما ، وعنده يقضى بقيمة الخدمة ، وأصل المسألة أن من باع العبد من نفسه بجارية بعينها ، ثم استحقت الجارية ، فعلى قولهما يرجع على العبد بقيمة نفسه ، وعلى قول محمد يرجع عليه بقيمة الجارية ، وكذلك لو لم تستحق ولكنه وجد بها عيبا فردها فهو على هذا الاختلاف ، وجملة الكلام فيه أن المولى إذا قبض العوض ، ثم استحق من يده ، فإن كان العوض بغير عينه كالمكيل والموزون الموصوفين في الذمة ، أو العروض والحيوان كالثوب الهروي والفرس والعبد والجارية فعلى العبد مثله في المكيل والموزون والوسط في الفرس والحيوان ; لأن العقد وقع على مال في الذمة ، وإنما المقبوض عوض عما في الذمة ، فإذا استحق المقبوض ، فقد انفسخ فيه القبض فبقي موجب العقد على حاله ، فله أن يرجع على العبد بذلك ، وإن كان عينا في العقد وهو مكيل ، أو موزون فكذلك يرجع المولى على العبد بمثله لما قلنا ، وإن كان عرضا ، أو حيوانا ، فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف : يرجع على العبد بقيمة نفسه ، وقال محمد يرجع عليه بقيمة المستحق .

( وجه ) قول محمد : أن العقد لم يفسخ باستحقاق العوض ; لأنه لا يحتمل الفسخ ، فيبقى موجبا لتسليم العوض ، وقد عجز عن تسليمه فيرجع عليه بقيمته كالخلع والصلح عن دم العمد ، ولهما أن العقد قد انفسخ في حق أحد العوضين وهو المستحق ; لأنه تبين أنه وقع على عين هي ملك المستحق ولم يجز ، وإذا انفسخ العقد في حقه لم يبق موجبا على العبد تسليمه ، فلا يجب عليه قيمته ، وانفساخه في حق أحد العوضين يقتضي انفساخه في حق العوض الآخر ، وهو نفس العبد إلا أنه تعذر إظهاره في صورة العبد ، فيجب إظهاره في معناه وهو قيمته ، فتجب عليه إذ قيمته قائمة مقام رد عينه ، كمن باع عبدا بجارية فأعتقها ومات العبد قبل التسليم أنه يجب على البائع رد قيمة العبد لا رد قيمة الجارية كذا ههنا ، ثم ما ذكرنا من الاختلاف في العيب إذا كان العيب فاحشا ; لأن العيب الفاحش في هذا الباب يوجب الرد بلا خلاف كما في باب النكاح ، فأما إذا كان غير فاحش فكذلك عندهما .

وأما عند محمد فلا يملك ردها ; لأنه مبادلة المال بمال ليس بمال فأشبه النكاح ، والمرأة في باب النكاح لا تملك رد المهر إلا في العيب الفاحش ، وكذا المولى ههنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية