بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما المقيد فهو أن يعلق عتق عبده بموته موصوفا بصفة أو بموته وشرط آخر نحو أن يقول : إن مت من مرضي هذا أو في سفري هذا فأنت حر .

أو يقول : إن قتلت فأنت حر أو إن غرقت فأنت حر أو إن حدث بي حدث من مرضي هذا أو من سفري هذا فأنت حر ، ونحو ذلك مما يحتمل أن يكون موته على تلك الصفة ويحتمل أن لا يكون ، وكذا إذا ذكر مع موته شرطا آخر يحتمل الوجود والعدم فهو مدبر مقيد ، وحكمه يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لو قال : إذا مت ودفنت أو غسلت أو كفنت فأنت حر .

فليس بمدبر يريد به في حق الأحكام المتعلقة بالتدبير في حال حياة المدبر ; لأنه علق العتق بالموت وبمعنى آخر فلم يكن مدبرا مطلقا ، فإن مات وهو في ملكه استحسنت أن يعتق من الثلث والقياس أن لا يعتق كما لو قال : إذا مت فدخلت الدار فأنت حر .

فمات المولى فدخل العبد الدار أنه لا يعتق كذا هذا ، لكنه استحسن وقال : يعتق من الثلث ; لأنه علق العتق بالموت وبما هو من علائقه ، فصار كما لو علقه بموت نصفه ، فكان حكمه حكم المدبر المقيد بخلاف قوله : إذا مت فدخلت الدار ; لأن دخول الدار لا تعلق له بالموت ، فلم يكن تعليقا بموت نصفه ، فلم يكن تدبيرا أصلا ، بل كان يمينا مطلقا فيبطل بالموت كسائر الأيمان .

ثم التدبير قد يكون مطلقا ، وقد يكون معلقا بشرط أما المطلق فما ذكرنا .

وأما المعلق فنحو أن يقول : إن دخلت الدار أو إن كلمت فلانا أو إذا قدم زيد فأنت مدبر ; لأن التدبير إثبات حق الحرية ، وحقيقة الحرية تحتمل التعليق بالشرط فكذا في حق التدبير ، وذكر محمد في الأصل : إذا قال أنت حر بعد موتي إن شئت .

فإن نوى بقوله إن شئت الساعة فشاء العبد في ساعته تلك صار مدبرا ; لأنه علق التدبير بشرط وهو المشيئة ، وقد وجد الشرط فيصير مدبرا ، كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت مدبر وإن عنى به مشيئته بعد الموت فليس للعبد مشيئة حتى يموت المولى ; لأنه علق العتق بشرط يوجد بعد الموت فإذا وجد قبله لا يعتبر ، فإن مات المولى فشاء عند موته فهو حر من ثلثه ، كذا ذكره في الأصل ، وذكر الحاكم في مختصره أن المراد منه أن يعتقه الوصي أو الوارث ; لأن العتق ههنا لم يتعلق بالموت وإنما تعلق به وبأمر آخر بعده فيصير بمنزلة الوصية بالإعتاق ، فيجب أن لا يعتق [ ص: 114 ] ما لم يعتق ، وكذا ذكر الجصاص أنه لا يعتق حتى يعتقه الورثة لما قلنا ، وروى ابن سماعة وعيسى بن أبان وأبو سليمان عن محمد فيمن قال لرجل : إذا مت فأعتق عبدي هذا إن شئت .

أو قال إذا مت فأمر عبدي هذا بيدك ثم مات فشاء الرجل عتقه في المجلس أو بعد المجلس فله أن يعتقه ; لأن هذا وصية بالإعتاق ، والوصايا لا يتقيد القبول فيها بالمجلس ، وكذا إن قال : عبدي هذا حر بعد موتي إن شئت فشاء بعد موته في المجلس أو بعد المجلس فقد وجبت الوصية ; لما ذكرنا أن الوصية لا يتقيد قبولها بالمجلس ولا يعتق العبد حتى يعتقه الورثة أو الوصي أو القاضي وهذا يؤيد قول الحاكم والجصاص ; لأنه لا فرق بين المسألتين سوى أن هناك علق بمشيئة العبد ، وههنا علق بمشيئة الأجنبي ، وكذلك لوقال لعبده : أنت حر إن شئت بعد موتي فمات المولى وقام العبد من مجلسه الذي علم فيه بموت المولى أو أخذ في عمل آخر فإن ذلك لا يبطل شيئا مما جعله إليه ; لما ذكرنا أن هذا وصية بالإعتاق وليس بتمليك ، والوصية لا يقف قبولها على المجلس .

وأما المضاف إلى وقت فنحو أن يقول أنت مدبر غدا أو رأس شهر كذا فإذا جاء الوقت صار مدبرا ; لأن التدبير إثبات حق الحرية فيحتمل الإضافة كإثبات حقيقة الحرية ولهذا احتمل التعليق بالشرط كذا الإضافة وقد روى بشر عن أبي يوسف فيمن قال لعبده : أنت حر بعد موتي بشهر .

فليس بمدبر ولا يعتق إلا أن يعتق ، وروى ابن سماعة عن محمد أنه قال : القياس أن يكون باطلا ألا ترى أنه لو جنى قبل الشهر دفعه بالجناية ، ولو لحقه دين بيع فيه ، ووجه القياس ما ذكرنا أنه لما علق العتق بمضي شهر بعد الموت ، فكما مات انتقل الملك فيه إلى الورثة ولم يبق إلا مضي الزمان وهو الشهر ، فلا يحتمل ثبوت العتق به فيبطل إلا أنهم استحسنوا فجعلوه وصية بالإعتاق ; لأن تصرف العاقل يحمل على الصحة ما أمكن ، وأمكن حمله على الوصية بالإعتاق بعد مضي شهر بعد الموت فيحمل عليها ، ولو قال : أنت حر قبل موتي بشهر .

فليس بمدبر ; لأنه ما أضاف العتق إلى الموت أصلا ، بل أضافه إلى زمان موصوف بأنه قبل موته بشهر من وقت التكلم ، وهذا أيضا يحتمل الوجود والعدم لجواز أن يموت قبل تمام الشهر من وقت الكلام ، فلا يكون مدبرا للحال ، وإذا مضى شهر قبل موت المولى وهو في ملكه ذكر الكرخي في مختصره أنه مدبر في قول أبي حنيفة وزفر ، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمدبر ، وعلل القدوري لأبي حنيفة أنه لما مضى شهر صار كأنه قال عند مضي الشهر : أنت حر بعد موتي ، وذكر في الجامع أنه لا يكون مدبرا ، ويجوز بيعه ولم يذكر الخلاف وهو الصحيح أما على قول أبي حنيفة فلأن المدبر اسم لمن علق عتقه بمطلق موت المولى ، وههنا ما أضاف العتق إلى الموت أصلا بل أضافه إلى أول الشهر ، وكذا حكمه عند أبي حنيفة يثبت من أول الشهر بطريق الظهور ، أو يستند إليه والثابت بالتدبير يقتصر على حالة الموت ولا يستند ، وبهذا تبين أن ما ذكره القدوري من التعليل لأبي حنيفة غير سديد .

وأما على قولهما فقد ذكر في النوادر أن عندهما يصير مدبرا مطلقا ، ووجهه أنه لما مضى الشهر ظهر أن عتقه تعلق بمطلق موت المولى فصار كأنه قال عند مضيه : أنت حر بعد موتي فصار مدبرا مطلقا وأما على ظاهر الرواية منهما فلا يصير مدبرا ; لأنه ما علق عتقه بالموت ، بل بشهر ومتصل بالموت فيصير كأنه قال : أنت حر قبل موتي بساعة ، ولو قال يوم أموت : فأنت حر أو أنت حر يوم أموت .

فإن نوى به النهار دون الليل لم يكن مدبرا ; لأنه نوى حقيقة كلامه ، إذ اليوم اسم لبياض النهار لغة ويجوز أن يموت بالليل لا بالنهار ، فلا يكون هذا مدبرا مطلقا ، وإن عنى به الوقت المبهم فهو مدبر ; لأن اليوم يذكر ويراد به الوقت المطلق قال الله تعالى { ومن يولهم يومئذ دبره } ومن ولى بالليل لحقه الوعيد المذكور ، وروى الحسن عن أبي حنيفة فيمن قال : إن مت إلى سنة أو إلى عشر سنين فأنت حر .

فليس بمدبر ; لأنه علق عتقه بموت بصفة تحتمل الوجود والعدم ، فإن قال : إن مت إلى مائة سنة ، ومثله لا يعيش إلى ذلك الوقت في الغالب فهو مدبر ; لأن موته في تلك المدة كائن لا محالة ، وروى هشام عن محمد فيمن قال : أنت مدبر بعد موتي فهو مدبر الساعة ; لأنه أضاف التدبير إلى ما بعد الموت ، والتدبير بعد الموت لا يتصور فيلغو قوله : بعد موتي فيبقى قوله : أنت مدبر أو يجعل قوله : أنت مدبر أي أنت حر فيصير كأنه قال : أنت حر بعد موتي ولو قال : أنت حر بعد موتي على ألف درهم فالقبول بعد الموت كذا ذكر في الجامع الصغير وهذا جواب ظاهر [ ص: 115 ] الرواية وروي عن أبي يوسف أن القبول في هذا على حالة الحياة ، لا بعد الموت فإذا قبل في المجلس صح التدبير وصار مدبرا ، ولا يلزمه المال ، وإذا مات عتق ولا شيء عليه .

( وجه ) قوله أن هذا إيجاب العتق في الحال بعوض ، إلا أن العتق يتأخر إلى ما بعد الموت فكان القبول في المجلس كما إذا قال له إن شئت فأنت حر رأس الشهر تعتبر المشيئة في المجلس لثبوت الحرية رأس الشهر كذا ههنا ، فإذا قبل في المجلس صح التدبير ولا يلزمه المال ; لأن المدبر مملوك للمولى مطلقا فلا يجب عليه للمولى دين ، وإذا مات عتق لوجود شرط العتق وهو الموت ، ولا يلزمه المال ; لأنه لم يلزمه وقت القبول فلا يلزمه وقت العتق ، وجه ظاهر الرواية أنه أضاف الإيجاب إلى ما بعد الموت فيكون القبول بعد الموت ، إذ القبول بعد الإيجاب يكون ، ولأن الإعتاق بعد الموت وصية بدليل اعتباره من الثلث ، وقبول الوصايا بعد الموت ، وإذا كان القبول بعد الموت لا يعتبر قبوله في حال الحياة ، وإنما يعتبر بعد الموت ، فإذا قبل بعد الموت فهل يعتق بعد الموت بنفس القبول ، أو لا يعتق إلا بإعتاق الوارث أو الوصي أوالقاضي ، لم يذكر هذا في الجامع الصغير ، ولو قال أنت مدبر على ألف فقبل فهو مدبر والمال ساقط ، كذا ذكر الكرخي لأنه علق التدبير بشرط وهو قبول المال ، فإذا قبل صار مدبرا والمدبر على ملك المولى ، فلا يجوز أن يلزمه دين لمولاه فسقط ، وروى بشر عن أبي يوسف في نوادره فيمن قال لعبده : أنت مدبر على ألف قال أبو حنيفة : ليس له القبول الساعة ، وله أن يبيعه قبل أو لم يقبل .

فإن مات وهو في ملكه ، فقال : قد قبلت أدى الألف وعتق ، وهو رواية عمرو عن محمد وقال أبو يوسف : إن لم يقبل حتى مات ليس له أن يقبل ، وظاهر قوله : أدى الألف وعتق يقتضي ثبوت العتق من غير إعتاق الوارث أو الوصي ، وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي إذا قال : إذا مت فأنت حر على ألف درهم فإنما يحتاج إلى القبول بعد الموت فإذا قبل بعد الموت فلا يعتق بالقبول حتى تعتقه الورثة أو الوصي ; لأن العتق قد تأخر وقوعه عن الموت ، وكل عتق تأخر وقوعه عن الموت لا يثبت إلا بإيقاع من الوارث أو الوصي ; لأنه يكون وصية بالإعتاق ، فلا يثبت ما لم يوجد الإعتاق كما لو قال : أنت حر بعد موتي بيوم أو بشهر أنه لا يعتق ما لم يعتقه الوارث أو الوصي بعد مضي اليوم أو الشهر لما قلنا كذا ههنا ثم في الوصية بالإعتاق يملك الوارث الإعتاق تنجيزا وتعليقا حتى لو قال له : إن دخلت الدار فأنت حر فدخل يعتق كما لو نجز العتق ، والوصي يملك التنجيز لا التعليق حتى لو علق بالدخول فدخل لا يعتق ، ولأن الوارث يتصرف بحكم الخلافة عن الميت ويقوم مقامه كأنه هو والوصي يتصرف بالأمر فلا يتعدى تصرفه موضع الأمر كالوكيل ، والوكيل بالإعتاق لا يملك التعليق ، ولو أعتقه الوصي أو الوارث عن كفارة لزمته لا يسقط عنه ; لأنه يقع عن الميت ، والولاء عن الميت لا عن الوارث ; لأن الإعتاق منه من حيث المعنى ، ولو قال : أنت حر على ألف درهم بعد موتي .

فالقبول في هذا في الحياة بلا خلاف ; لأنه جعل القبول في الحالتين شرطا لثبوت العتق بعد الموت ، فإذا قبل صار مدبرا ، ولا يجب المال لما قلنا فإذا مات عتق ولا شيء عليه وهذا حجة أبي يوسف في المسائل المتقدمة ، والله عز وجل الموفق ولو قال : كل مملوك أملكه فهو حر بعد موتي فما في ملكه صار مدبرا ، وما يستفيده يعتق من الثلث بغير تدبير ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف : لا يدخل في هذا الكلام ما يستفيده .

( وجه ) قوله إن المملوك للحال مراد من هذا الإيجاب ، فلا يكون ما يستفيده مرادا ; لأن الحال مع الاستقبال معنيان مختلفان ، واللفظ الواحد لا يشتمل على معنيين مختلفين ، ولهذا لم يدخل المستفاد في هذا في الإعتاق البات ، كذا في التدبير ولهما أن التدبير في معنى اليمين ومعنى الوصية ، أما معنى اليمين فظاهر ; لأنه تعليق العتق بالشرط ، فاليمين إن كان لا يصلح إلا في الملك القائم أو مضافا إلى الملك أو سببه فالوصية تتعلق بما في ملك الموصي وبما يستحدث الملك فيه ، فإن من أوصى بثلث ماله يدخل فيه المملوك للحال وما يستفيده إلى وقت الموت ، وقوله : اللفظ الواحد لا يشتمل على معنيين مختلفين قلنا : قد يشتمل كالكتابة والإعتاق على مال فإنهما يشتملان على معنى اليمين والمعاوضة كذا هذا ، والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية