بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
فإن دبراه معا ينظر إن قال كل واحد منهما : قد دبرتك أو أنت مدبر أو نصيبي منك مدبر أو قال إذا مت فأنت حر أو أنت حر بعد موتي .

وخرج الكلامان معا صار مدبرا لهما بلا خلاف ; لأن تدبير كل واحد منهما صادف ملك نفسه فصار العبد مدبرا بينهما فإذا مات أحدهما عتق نصيبه من الثلث ، والآخر بالخيار إن شاء أعتق وإن شاء كاتب وإن شاء استسعى ، وليس له أن يتركه على حاله ; لأنه صار معتق البعض ، فإذا مات الباقي منهما قبل أخذ السعاية بطلت السعاية وعتق إن كان يخرج من الثلث لما ذكرنا .

وإن قالا جميعا : إذا متنا فأنت حر أو أنت حر بعد موتنا وخرج كلامهما معا ، لا يصير مدبرا لأن كل واحد منهما علق عتقه بموته وموت صاحبه ، فصار كأن كل واحد منهما قال : إن مت أنا وفلان فأنت حر أو أنت حر إن مت أنا وفلان إلا إذا مات أحدهما فيصير نصيب الباقي منهما مدبرا لصيرورة عتقه معلقا بموت المولى مطلقا ، وصار نصيب الميت ميراثا لورثته ، ولهم الخيارات إن شاءوا أعتقوا وإن شاءوا دبروا وإن شاءوا كاتبوا وإن شاءوا استسعوا وإن شاءوا ضمنوا الشريك إن كان موسرا ، وإذا مات الآخر عتق نصيبه من الثلث ، هذا إذا دبره أحدهما أو كلاهما ، فإن دبر أحدهما أو أعتقه الآخر فهذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين : إما أن خرج الكلامان على التعاقب ، وإما إن خرجا معا .

فإن خرجا على التعاقب فإما إن علم السابق منهما ، وإما إن لم يعلم .

فإن علم فإن كان الإعتاق سابقا بأن أعتقه أحدهما أولا ثم دبره الآخر فأما على قول أبي يوسف ومحمد فكما أعتقه أحدهما فقد عتق كله ; لأن الإعتاق عندهما لا يتجزأ ، وتدبير الشريك باطل ; لأنه صادف الحر ، والولاء كله للمعتق ; لأن كله عتق بإعتاقه ، وعليه الضمان إن كان موسرا وعلى العبد السعاية إن كان معسرا لما ذكرنا في كتاب العتاق ، فصار كعبد بين اثنين أعتقه أحدهما وسكت الآخر ، وقد ذكرنا فيما تقدم وأما على قول أبي حنيفة إذا أعتقه أحدهما ، فلم يعتق إلا نصيبه لتجزؤ الإعتاق عنده ، فلما دبره الآخر فقد صح تدبيره ; لأنه دبر ملك نفسه فصح وصار ميراثا للمعتق عن [ ص: 118 ] الضمان ; لأنه قد ثبت له بإعتاق الشريك خيارات منها التضمين ومنها التدبير ، فإذا دبره فقد استوفى حقه فبرئ المعتق عن الضمان ، ولأنه إنما يثبت له ولاية التضمين بشرط نقل نصيبه إلى المعتق بالضمان وقد خرج الجواب عن احتمال النقل بالتدبير فسقط الضمان ، والمدبر بالخيار إن شاء أعتق نصيبه الذي صار مدبرا وإن شاء كاتبه وإن شاء استسعى العبد ، وليس له أن يتركه على حاله ; لأنه قد عتق بعضه فوجب تخريجه إلى العتق بالطرق التي بينا ، وإذا مات المدبر عتق نصيبه الذي صار مدبرا من الثلث ، والولاء بينهما ; لأن كله عتق بإعتاقهما ، النصف بالإعتاق البات والنصف بالتدبير ، فعتق نصيب كل واحد منهما على ملكه .

وإن كان التدبير سابقا بأن دبره أحدهما أولا ثم أعتق الآخر ، فعلى قولهما كما دبره أحدهما صار كله مدبرا له ; لأن التدبير عندهما لا يتجزأ كالإعتاق البات ويضمن المدبر نصيب شريكه قنا ، سواء كان موسرا أو معسرا لما بينا .

وأما على قول أبي حنيفة فلم يصر كله مدبرا ، بل نصيبه خاصة لتجزؤ التدبير عنده فصح إعتاق الشريك فعتق نصفه ، وللمدبر أن يرجع على المعتق بنصف قيمة العبد مدبرا إن كان المعتق موسرا لما ذكرنا فيما تقدم ، وإن شاء أعتق نصيبه الذي هو مدبر ، وإن شاء استسعى العبد وليس له أن يتركه على حاله ; لأنه معتق البعض ، وإن خرج الكلامان معا لا يرجع أحدهما على صاحبه بضمان ; لأن الضمان إنما يجب بإتلاف مال الغير ، فإذا خرج الكلامان معا كان كل واحد منهما متصرفا في ملك نفسه لا متلفا ملك غيره ، فلا يجب عليه الضمان ، ومنهم من قال هذا على قياس قول أبي حنيفة ; لأن الإعتاق والتدبير كل واحد منهما يتجزأ عنده ، فصح التدبير في النصف ، والإعتاق في النصف .

فأما على قياس قولهما ينفذ الإعتاق ويبطل التدبير ; لأن الإعتاق والتدبير لا يتجزآن ، والإعتاق أقوى فيدفع الأدنى وإن كان أحدهما سابقا لكن لا نعلم السابق منهما من اللاحق ، ذكر في الأصل أن المعتق يضمن ربع قيمة العبد للمدبر ويستسعي العبد له في الربع الآخر ، وهذا استحسان ، ولم يذكر الخلاف ، ومنهم من قال : هذا قول أبي حنيفة .

فأما عندهما فالجواب فيه وفيما إذا خرج الكلامان معا سواء وجه قولهما إن كل أمرين حادثين لا يعلم تاريخهما يحكم بوقوعهما معا في أصول الشرع كالغرقى والحرقى والهدمى ، ولهذا قال بعض أهل الأصول : في النص العام والخاص إذا تعارضا وجهل التاريخ أنه يجعل كأنهما وردا معا ، ويبنى العام على الخاص على طريق البيان ، ويكون المراد من النص العام ما وراء القدر المخصوص ، وجه قياس قول أبي حنيفة أنه وقع الشك في وجوب الضمان على المعتق لوقوع الشك في سبب وجوبه ; لأن التدبير إن كان لاحقا كان المدبر بالتدبير جبريا للمعتق من الضمان لما مر ، وإن كان سابقا يجب الضمان على المعتق فوقع الشك في الوجوب ، والوجوب لم يكن ثابتا فلا يثبت مع الشك ، وجه الاستحسان له اعتبار الأحوال وهو أن الإعتاق إذا كان متقدما على التدبير فقد أبرأ المدبر المعتق عن الضمان ، وإن كان متأخرا فالمعتق ضامن وقد سقط ضمان التدبير بالإعتاق بعده .

فإذا لا ضمان على المدبر في الحالتين جميعا والمعتق يضمن في حال ولا يضمن في حال ، والمضمون هو النصف فينتصف فيعتق ربع القيمة ويسعى العبد للمدبر في الربع الآخر ; لأنه لما تعذر التضمين فيه ووجب تخريجه إلى العتاق ، أخرج بالسعاية كما لو كان المعتق موسرا ، والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية