بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ومنها ألا يكون البدل ملك المولى وهو شرط الانعقاد حتى لو كاتبه على عين من أعيان مال المولى لم يجز ; لأنه يكون مكاتبة بغير بدل في الحقيقة فلا يجوز ، كما إذا باع داره من إنسان بعبد هو لصاحب الدار ، أنه لا يجوز البيع ; لأنه يكون بيعا بغير ثمن في الحقيقة كذا هذا .

وكذا لو كاتبه على ما في يد العبد من الكسب وقت المكاتبة ; لأن ذلك مال المولى فيكون مكاتبة على مال المولى فلم يجز .

وأما كون البدل دينا فهل هو شرط جواز الكتابة بأن كاتبه على شيء بعينه من عبد أو ثوب أو دار أو غير ذلك مما يتعين بالتعيين وهو ليس من أعيان مال المولى ولا كسب العبد ولكنه ملك أجنبي وهو معين مشار إليه .

ذكر في كتاب المكاتب إذا كاتب عبده على عبد بعينه لرجل لم يجز ، ولم يذكر الخلاف وذكر في كتاب الشرب إذا كاتبه على أرض لرجل جاوز ولم يذكر الخلاف ، وذكر ابن سماعة الخلاف فقال : لا يجوز عند أبي حنيفة ، ويجوز عند أبي يوسف ، وعند محمد : إن أجاز صاحبه جاز وإلا لم يجز ، وإطلاق رواية كتاب المكاتب يقتضي أن لا يجوز أجاز أو لم يجز ، وإطلاق رواية كتاب الشرب يقتضي الجواز أجاز أو لم يجز ، ولأنه لما جاز عند عدم الإجازة فعند الإجازة أولى ويجوز أن يكون قول محمد [ ص: 140 ] تفسيرا للروايتين المبهمتين ، فتحمل رواية كتاب المكاتب على حال عدم الإجازة ورواية كتاب الشرب على حال الإجازة ، وجه رواية كتاب المكاتب أنه كاتبه على مال لا يملك ; لأنه كاتبه على عبد هو ملك الغير فلا يجوز ، وبه علل في الأصل فقال : لأنه كاتبه على ما لا يملك ; لأنه كاتبه على ملك الغير ، وشرح هذا التعليل أن المكاتبة عقد وضع لإكساب المال ، والعبد لا يقدر على إكساب هذا العين لا محالة ; لأن مالك العبد قد يبيعه وقد لا يبيعه ، فلا يحصل ما وضع له العقد ، ولأنا لو قضينا بصحة هذه المكاتبة لفسدت من حيث تصح ; لأنه إذا كاتبه على عبد هو ملك الغير ولم يجز المالك فقد تعذر عليه التسليم فكان موجبها وجوب قيمة العبد ، فيصير كأنه كاتبه على قيمة عبد فيفسد من حيث يصح ، وما كان في تصحيحه إفساده فيقضي بفساده من الأصل أو يقال إذا تعذر عليه التسليم فإما أن تجب على قيمة العبد أو قيمة نفسه ، وكل ذلك فاسد ، وجه رواية كتاب الشرب وهو المروي عن أبي يوسف أيضا أن المكاتبة في معنى الإعتاق على مال ، ثم لو أعتق عبده على عبد بعينه لرجل فقبل العبد جاز ، وجه ما روي عن محمد من التوقف على الإجازة أن هذا عقد له مجيز حال وقوعه ، فيتوقف على الإجازة كالمبيع ، وكذلك كل ما عينه من مال غيره من عرض أو مكيل أو موزون ; لأن هذه الأشياء كلها تتعين في العقود بالتعيين فكانت كالعبد ، ولو قال كاتبتك على ألف فلان هذه جازت المكاتبة ; لأن الدراهم لا تتعين بالتعيين في عقود المعاوضات فيقع العقد على مثلها في الذمة لا على عينها فيجوز وإن أدى غيرها عتق ; لأن المكاتبة وقعت على ما في الذمة ، وسواء كان البدل قليلا أو كثيرا ; لأن دلائل جواز المكاتبة لا يفصل بين القليل والكثير ، وسواء كان مؤجلا أو غير مؤجل عندنا وعند الشافعي لا يجوز إلا مؤجلا ، وهو على قلب الاختلاف في السلم ، أنه لا يجوز إلا مؤجلا عندنا وعنده يجوز مؤجلا وغير مؤجل .

فالحاصل أنه لا خلاف في جواز المكاتبة على بدل مؤجل .

واختلف في الجواز على بدل غير مؤجل قال أصحابنا : يجوز ، وقال الشافعي لا يجوز إلا مؤجلا منجما بنجمين فصاعدا ، وجه قوله إن العبد عاجز عن تسليم البدل عند العقد ; لأنه معسر لا مال له والعجز عن التسليم عند العقد يمنع انعقاده ، بدليل أنه لو طرأ على العقد يرفعه .

فإذا قارنه يمنعه من الانعقاد من طريق الأولى ; لأن المنع أسهل من الرفع ، وكذا مأخذ الاسم يدل على ما قلنا ، فإن الكتابة مأخوذة من الكتاب ، والكتاب يذكر بمعنى الأجل قال الله عز وجل { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } أي أجل لا يتقدم ولا يتأخر فسمي هذا عقد كتابة لكون البدل فيه مؤجلا ويذكر بمعنى الكتاب المعروف ، وهو المكتوب سمي العقد بذلك لأن البدل يكتب في الديوان ، والحاجة إلى الكتابة للمؤجل لا للحال ، فكان الأجل فيه شرطا كالمسلم لما كان مأخوذا من التسليم ، كان تسليم رأس المال فيه شرطا ; لجواز السلم ، وكذا الصرف لما كان ينبئ عن نقل البدل من يد إلى يد كان القبض فيه من الجانبين شرطا كذا هذا ، ولنا قوله عز وجل { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } من غير فصل بين الحال والمؤجل ، ولأن بدل الكتابة دين يجوز الاستبدال به قبل القبض فلا يشترط فيه التأجيل كسائر الديون بخلاف بدل الصرف والسلم وأما قوله : إن العبد عاجز عن تسليم البدل عند العقد .

فمسلم لكن الأداء يكون بعد العقد ويحتمل حدوث القدرة بعده ، بأنه يكتب مالا بقبول هبة أو صدقة فيؤدي بدل الكتابة .

وأما مأخذ الاسم فالكتابة تحتمل معاني يقال : كتب أي أوجب قال الله تعالى { كتب على نفسه الرحمة } وكتب أي ثبت قال الله تعالى { كتب في قلوبهم الإيمان } وكتب أي حكم وقضى ، قال الله تعالى { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } وشيء من هذه المعاني لا ينبئ عن التأجيل ثم إذا كانت المكاتبة حالة فإن أدى البدل حين طالبه المولى بها وإلا يرد في الرق سواء شرط ذلك في العقد أو لم يشرط بأن قال له : إن لم تؤدها إلي حالة فأنت رقيق أو لم يقل ; لأنه كاتبه على بدل موصوف بصفة الحلول فلم يكن راضيا بدون تلك الصفة ، وكذلك إذا كانت منجمة بنجوم معلومة فعجز عن أول نجم منها يرد إلى الرق في قول أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف لا يرد حتى يتوالى عليه نجمان .

احتج أبو يوسف بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : المكاتب إذا توالى عليه نجمان رد في الرق فقد شرط حلول [ ص: 141 ] نجمين للرد في الرق ، ولأن العجز لا يتحقق إلا عند حلول نجمين لجواز أن يقرضه إنسان ، أو يحصل له مال من موضع آخر فيؤدي ، فإذا اجتمع عليه مال نجمين فقد تحقق عجزه ، ولهما ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كاتب عبدا له فعجز عن نجم واحد فرده إلى الرق والظاهر أن ذلك كان على علم من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد فيكون إجماعا ولأن المولى شرط عليه في كل نجم قدرا من المال وأنه شرط معتبر مفيد من شرائط الكتابة فكان له أن يرده إلى الرق عند فواته ، كما لو عجز عن نجمين .

وأما احتجاجه بقول علي رضي الله عنه فغير سديد ; لأنه احتجاج بالسكوت ; لأن فيه أنه إذا توالى عليه نجمان يرد إلى الرق وليس فيه أنه إذا كسر نجما واحدا ماذا حكمه ؟ أو يحمل على الندب ، وبه نقول : إن المكاتب إذا كسر نجما يندب مولاه إلى أن لا يرده إلى الرق ما لم يتوال عليه نجمان رفقا به ، ونظرا ; فإن عجز عن نجمين على أصله أو عن نجم على أصلهما ، فإن كان له مال حاضر أو غائب مرجو حضوره بأن قال : لي مال على إنسان أو حال يجيء في القافلة فإن القاضي ينتظر فيه يومين أو ثلاثة استحسانا ; لأن هذا القدر من التأخير ما لا ضرر فيه على المولى وفيه رجاء وصول كل واحد منهما إلى حقه فيفعل القاضي ذلك عند رجاء الوصول .

التالي السابق


الخدمات العلمية