بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) السؤر المختلف في طهارته ونجاسته فهو سؤر الخنزير والكلب وسائر سباع الوحش ، فإنه نجس عند عامة العلماء ، وقال مالك : طاهر وقال الشافعي سؤر السباع كلها طاهر سوى الكلب والخنزير .

( أما ) الكلام مع مالك فهو يحج بظاهر قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } أباح الانتفاع بالأشياء كلها ، ولا يباح الانتفاع إلا بالطاهر ، إلا أنه حرم أكل بعض الحيوانات ، وحرمة الأكل لا تدل على النجاسة كالآدمي ، وكذا الذباب والعقرب والزنبور ونحوها طاهرة ولا يباح أكلها ، إلا أنه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب مع طهارته تعبدا ، ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه ثلاثا ، وفي رواية خمسا ، وفي رواية سبعا } والأمر بالغسل لم يكن تعبدا ، إذ لا قربة تحصل بغسل الأواني ; ألا ترى أنه لو لم يقصد صب الماء فيه في المستقبل لا يلزمه الغسل ، فعلم أنه لنجاسته ; ولأن سؤر هذه الحيوانات متحلب من لحومها ، ولحومها نجسة ويمكن التحرز عن سؤرها وصيانة الأواني عنها ; فيكون نجسا ضرورة .

( وأما ) الكلام مع الشافعي فهو يحتج بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل : أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ فقال : نعم ، وبما أفضلت السباع كلها } وعن جابر بن عبد الله أن { النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المياه التي بين مكة والمدينة وما يردها من السباع فقال صلى الله عليه وسلم : لها ما حملت في بطونها ، وما بقي فهو لنا شراب وطهور } وهذا نص .

( ولنا ) ما روي عن عمر وعمرو بن العاص أنهما وردا حوضا فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض : أترد السباع حوضكم ؟ فقال عمر رضي الله عنه : يا صاحب الحوض لا تخبرنا ولو لم يتنجس الماء القليل بشربها منه لم يكن للسؤال ولا للنهي معنى ; ولأن هذا حيوان غير مأكول اللحم ويمكن صون الأواني عنها ، ويختلط بشربها لعابها بالماء ، ولعابها نجس ; لتحلبه من لحمها وهو نجس ، فكان سؤرها نجسا كسؤر الكلب والخنزير بخلاف الهرة ، لأن صيانة الأواني عنها غير ممكن وتأويل الحديثين أنه كان قبل تحريم لحم السباع ، أو السؤال وقع عن المياه الكثيرة وبه نقول : إن مثلها لا ينجس .

التالي السابق


الخدمات العلمية