بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( ومنها ) غسالة النجاسة الحقيقية ، وجملة الكلام أن غسالة النجاسة نوعان : غسالة النجاسة الحقيقية ، وغسالة النجاسة الحكمية وهي الحدث أما غسالة النجاسة الحقيقية وهي ما إذا غسلت النجاسة الحقيقية ثلاث مرات فالمياه الثلاث نجسة ; لأن النجاسة انتقلت إليها إذ لا يخلو كل ماء عن نجاسة فأوجب تنجيسها وحكم المياه الثلاث في حق المنع من جواز التوضؤ بها ، والمنع من جواز الصلاة بالثوب الذي أصابته سواء لا يختلف وأما في حق تطهير المحل الذي أصابته فيختلف حكمها ، حتى قال مشايخنا : إن الماء الأول إذا أصاب ثوبا لا يطهر إلا بالعصر ، والغسل مرتين بعد العصر ، والماء الثاني يطهر بالغسل مرة بعد العصر ، والماء الثالث يطهر بالعصر لا غير ; لأن حكم كل ماء حين كان في الثوب الأول كان هكذا ، فكذا في الثوب الذي أصابه ، واعتبروا ذلك بالدلو المنزوح من البئر النجسة إذا صب في بئر طاهرة أن الثانية تطهر بما تطهر به الأولى كذا هذا ، وهل يجوز الانتفاع بالغسالة فيما سوى الشرب والتطهير من بل الطين وسقي الدواب ونحو ذلك ؟ فإن كان قد تغير طعمها أو لونها أو ريحها لا يجوز الانتفاع ; لأنه لما تغير دل أن النجس غالب فالتحق بالبول ، وإن لم يتغير شيء من ذلك يجوز ; لأنه لما لم يتغير دل أن النجس لم يغلب على الطاهر ، والانتفاع بما ليس بنجس العين مباح في الجملة ، وعلى هذا إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه أنه إن كان جامدا تلقى الفأرة وما حولها ويؤكل الباقي ، وإن كان ذائبا لا يؤكل ولكن يستصبح به ويدبغ به الجلد ويجوز بيعه ، وينبغي للبائع أن يبين عيبه فإن لم يبين وباعه ثم علم به المشتري فهو بالخيار إن شاء رده وإن شاء رضي به وقال الشافعي رحمه الله : لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به .

( واحتج ) بما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن { النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال : إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، وكلوا الباقي ، وإن كان ذائبا فأريقوه } ولو جاز الانتفاع به لما أمر بإراقته ولأنه نجس فلا يجوز الانتفاع به ولا بيعه كالخمر ، .

( ولنا ) ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن { النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال : تلقى الفأرة وما حولها ويؤكل الباقي ، فقيل : يا رسول الله أرأيت لو كان السمن ذائبا ؟ فقال : لا تأكلوا ولكن انتفعوا به } وهذا نص في الباب ; ولأنها في الجامد لا تجاور إلا ما حولها وفي الذائب تجاور الكل ، فصار الكل نجسا ، وأكل النجس لا يجوز فأما الانتفاع بما ليس بنجس العين فمباح كالثوب النجس وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء ما حولها في الجامد ، وإراقة الذائب في حديث أبي موسى لبيان حرمة الأكل ; لأن معظم الانتفاع بالسمن هو الأكل والحد الفاصل بين الجامد والذائب : أنه إن كان بحال لوقور ذلك الموضع لا يستوي من ساعته ، فهو جامد ، وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب ، وإذا دبغ به الجلد يؤمر بالغسل ، ثم إن كان ينعصر بالعصر يغسل ويعصر ثلاث مرات ، وإن كان لا ينعصر لا يطهر عند محمد أبدا ، وعند أبي يوسف يغسل ثلاث مرات ويجفف في كل مرة ، وعلى هذا مسائل نذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية