بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) غسالة النجاسة الحكمية وهي الماء المستعمل فالكلام في الماء المستعمل يقع في ثلاثة مواضع : أحدها - في صفته أنه طاهر أم نجس ؟ والثاني - في أنه في أي حال يصير مستعملا ؟ والثالث - في أنه بأي سبب يصير مستعملا ؟ ( أما ) الأول فقد ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يجوز التوضؤ به ولم يذكر أنه طاهر أم نجس ؟ وروى محمد عن أبي حنيفة أنه طاهر غير طهور وبه أخذ الشافعي ، وهو أظهر أقوال الشافعي ، وروى أبو يوسف والحسن بن زياد عنه أنه نجس ، غير أن الحسن روى عنه أنه نجس نجاسة غليظة يقدر فيه بالدرهم وبه أخذ وأبو يوسف روي عنه أنه نجس نجاسة خفيفة يقدر فيه بالكثير الفاحش وبه أخذ وقال زفر : إن كان المستعمل متوضئا فالماء المستعمل طاهر وطهور ، وإن كان محدثا فهو طاهر غير طهور وهو أحد أقاويل الشافعي ، وفي [ ص: 67 ] قول له أنه طاهر وطهور بكل حال ، وهو قول مالك ، ثم مشايخ بلخ حققوا الخلاف فقالوا : الماء المستعمل نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف .

وعند محمد طاهر غير طهور ، ومشايخ العراق لم يحققوا الخلاف فقالوا : إنه طاهر غير طهور عند أصحابنا ، حتى روي عن القاضي أبي حازم العراقي أنه كان يقول : إنا نرجو أن لا تثبت رواية نجاسة الماء المستعمل عن أبي حنيفة ، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر ، وجه قول من قال : إنه طهور ; وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه } ولم يوجد التغير بعد الاستعمال ; ولأن هذا ماء طاهر لاقى عضوا طاهرا فلا يصير نجسا كالماء الطاهر إذا غسل به ثوب طاهر ، والدليل على أنه لاقى محلا طاهرا أن أعضاء المحدث طاهرة حقيقة وحكما ، أما الحقيقة ; فلانعدام النجاسة الحقيقية حسا ومشاهدة .

وأما الحكم ; فلما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يمر في بعض سكك المدينة ، فاستقبله حذيفة بن اليمان ، فاراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصافحه فامتنع وقال : إني جنب يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن لا ينجس } .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم { قال لعائشة رضي الله عنها : ناوليني الخمرة ، فقالت : إني حائض ، فقال : ليست حيضتك في يدك ; } ولهذا جاز صلاة حامل المحدث والجنب ، وحامل النجاسة لا تجوز صلاته ، وكذلك عرقه طاهر وسؤره طاهر وإذا كانت أعضاء المحدث طاهرة كان الماء الذي لاقاها طاهرا ضرورة لأن الطاهر لا يتغير عما كان عليه إلا بانتقال شيء من النجاسة إليه ، ولا نجاسة في المحل على ما مر ، فلا يتصور الانتقال فبقي طاهرا ، وبهذا يحتج محمد لإثبات الطهارة إلا أنه لا يجوز التوضؤ به ; لأنا تعبدنا باستعمال الماء عند القيام إلى الصلاة شرعا غير معقول التطهير ; لأن تطهير الطاهر محال ، والشرع ورد باستعمال الماء المطلق وهو الذي لا يقوم به خبث ، ولا معنى يمنع جواز الصلاة وقد قام بالماء المستعمل أحد هذين المعنيين ، أما على قول محمد ; فلأنه أقيم به قربة إذا توضأ لأداء الصلاة ; لأن الماء إنما يصير مستعملا بقصد التقرب عنده وقد ثبت بالأحاديث أن الوضوء سبب لإزالة الآثام عن المتوضئ للصلاة ، فينتقل ذلك إلى الماء ، فيتمكن فيه نوع خبث كالمال الذي تصدق به ; ولهذا سميت الصدقة غسالة الناس وأما على قول زفر ; فلأنه قام به معنى مانع من جواز الصلاة وهو الحدث ; لأن الماء عنده إنما يصير مستعملا بإزالة الحدث .

وقد انتقل الحدث من البدن إلى الماء ، ثم الخبث والحدث وإن كانا من صفات المحل ، والصفات لا تحتمل الانتقال لكن ألحق ذلك بالعين النجسة القائمة بالمحل حكما والأعيان الحقيقية قابلة للانتقال فكذا ما هو ملحق بها شرعا ، وإذا قام بهذا الماء أحد هذين المعنيين لا يكون في معنى الماء المطلق ، فيقتصر الحكم عليه على الأصل المعهود أن ما لا يعقل من الأحكام يقتصر على المنصوص عليه ولا يتعدى إلى غيره إلا إذا كان في معناه من كل وجه ، ولم يوجد أوجه رواية النجاسة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من جنابة } حرم الاغتسال في الماء القليل ; لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام ، فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة لم يكن للنهي معنى ، لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام ، أما تنجيس الطاهر فحرام فكان هذا نهيا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال ، وذا يقتضي التنجيس به ، ولا يقال : إنه يحتمل أنه نهي لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرا من غير ضرورة وذلك حرام ; لأنا نقول : الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرا باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبا عليه ، كماء الورد واللبن ونحو ذلك ، فأما إذا كان مغلوبا فلا .

وههنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن ، ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل فكيف يخرج به من أن يكون مطهرا ؟ فأما ملاقاة النجس الطاهر فتوجب تنجيس الطاهر ; وإن لم يغلب على الطاهر لاختلاطه بالطاهر على وجه لا يمكن التمييز بينهما فيحكم بنجاسة الكل ، فثبت أن النهي لما قلنا ولا يقال : إنه يحتمل أنه نهي ; لأن أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية ، وذا يوجب تنجيس الماء القليل ; لأنا نقول : الحديث مطلق فيجب العمل بإطلاقه ; ولأن النهي عن الاغتسال ينصرف إلى الاغتسال المسنون ; لأنه هو المتعارف فيما بين المسلمين ، والمسنون منه هو إزالة النجاسة الحقيقية عن البدن قبل الاغتسال ، على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيد بالنهي عن البول فيه [ ص: 68 ] فوجب حمل النهي عن الاغتسال فيه - على ما ذكرنا - صيانة لكلام صاحب الشرع عن الإعادة الخالية عن الإفادة ; ولأن هذا مما تستخبثه الطباع السليمة فكان محرما لقوله تعالى { ويحرم عليهم الخبائث } والحرمة - لا للاحترام - دليل النجاسة ; ولأن الأمة أجمعت على أن من كان في السفر ومعه ماء يكفيه لوضوئه وهو بحال يخاف على نفسه العطش يباح له التيمم .

ولو بقي الماء طاهرا بعد الاستعمال لما أبيح ; لأنه يمكنه أن يتوضأ ويأخذ الغسالة في إناء نظيف ويمسكها للشرب ، والمعنى في المسألة من وجهين : أحدهما : في المحدث خاصة والثاني : يعم الفصلين أما الأول ; فلأن الحدث هو خروج شيء نجس من البدن وبه يتنجس بعض البدن حقيقة فيتنجس الباقي تقديرا ; ولهذا أمرنا بالغسل والوضوء ; وسمي تطهيرا ، وتطهير الطاهر لا يعقل ، فدل تسميتها تطهيرا على النجاسة تقديرا ; ولهذا لا يجوز له أداء الصلاة التي هي من باب التعظيم ، ولولا النجاسة المانعة من التعظيم لجازت ، فثبت أن على أعضاء المحدث نجاسة تقديرية ، فإذا توضأ انتقلت تلك النجاسة إلى الماء فيصير الماء نجسا تقديرا وحكما ، والنجس قد يكون حقيقيا وقد يكون حكميا كالخمر والثاني - ما ذكرنا أنه يزيل نجاسة الآثام وخبثها فنزل ذلك منزلة خبث الخمر إذا أصاب الماء ينجسه كذا هذا ، ثم إن أبا يوسف جعل نجاسته خفيفة ; لعموم البلوى فيه ; لتعذر صيانة الثياب عنه ولكونه محل الاجتهاد فأوجب ذلك خفة في حكمه والحسن جعل نجاسته غليظة ; لأنها نجاسة حكمية ; وأنها أغلظ من الحقيقة ، ألا ترى أنه عفي عن القليل من الحقيقية دون الحكمية بأن بقي على جسده لمعة يسيرة ، وعلى هذا الأصل ينبني أن التوضؤ في المسجد مكروه ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد : لا بأس به ، إذا لم يكن عليه قذر ، فمحمد مر على أصله أنه طاهر ، وأبو يوسف مر على أصله أنه نجس .

وأما عند أبي حنيفة فعلى رواية النجاسة لا يشكل .

وأما على رواية الطهارة ; فلأنه مستقذر طبعا فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم ، ولو اختلط الماء المستعمل بالماء القليل ؟ قال بعضهم : لا يجوز التوضؤ به وإن قل وهذا فاسد ، أما عند محمد فلأنه طاهر لم يغلب على الماء المطلق فلا يغيره عن صفة الطهورية كاللبن .

وأما عندهما فلأن القليل مما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا ; ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه حين سئل عن القليل منه : لا بأس به وسئل الحسن البصري عن القليل فقال : ومن يملك نشر الماء ؟ وهو ما تطاير منه عند الوضوء وانتشر أشار إلى تعذر التحرز عن القليل ، فكان القليل عفوا ، ولا تعذر في الكثير فلا يكون عفوا ، ثم الكثير عند محمد ما يغلب على الماء المطلق ، وعندهما أن يتبين مواقع القطرة في الإناء .

التالي السابق


الخدمات العلمية