بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ومنها أنه لا يورث من المعتق بعد موته ولا يكون سبيله سبيل الميراث ، وإنما يستحقه عصبة المعتق بنفسها وهم الذكور من عصبته لا الإناث ولا الذكور من أصحاب الفرائض والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم { الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث } أي لا يورث من المعتق لإجماعنا على أنه يورث من المعتق ولأن الولاء لما كان سببه النسب ، ثم النسب لا يورث نفسه ، وإن كان يورث به فكذا الولاء وروينا عن النجباء السبعة رضي الله عنهم أنهم قالوا بلفظ واحد الولاء للكبر فالظاهر هو السماع .

فإن لم يكن فقد ظهرت الفتوى بينهم ولم يظهر لهم فيها مخالف فيكون إجماعا ومعنى قولهم الولاء للكبر أي للأقرب ، وهو أقرب العصبة إلى المعتق يقال فلان أكبر قومه إذا كان أقربهم إلى الأصل الذي ينسبون إليه .

وإنما شرطنا الذكورة في هذه العصوبة ; لأن الأصل في العصبة هم الذكور إذ العصبة عبارة عن الشدة والقوة قال الله تبارك وتعالى خبرا عن بني يعقوب عليهم الصلاة والسلام { إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة } أي جماعة أقوياء أشداء قادرون على النفع والدفع ، وهذا قول عامة العلماء ، وعن إبراهيم النخعي وشريح أن الولاء يجري مجرى المال فيورث من المعتق كما يورث سائر أمواله إلا أنه إنما يرث منه الرجال لا النساء بالنص ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم { ليس للنساء إلا ما أعتقن } الخبر وكان شريح يقول من أحرز شيئا في حياته فهو لورثته بعد موته واحتجا بما روي عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا من أحرز المال أحرز الولاء فقد أنزلوه منزلة المال فدل على أن حكمه حكم المال والجواب أن معنى قولهم من أحرز المال أحرز الولاء أي من أحرز المال من عصبة المعتق يوم موت المعتق أحرز الولاء أيضا بدليل أن المرأة تحرز المال ولا تحرز الولاء بالإجماع وبالحديث فعلم أن المراد منع العصبات وبه نقول ولأن في الحمل على ما قلنا عملا بالدلائل بقدر الإمكان فهو أولى ، ثم بيان هذا في الأصل في مسائل فيرجل أعتق عبدا له ، ثم مات المعتق وترك ابنين ، ثم مات أحد الابنين وترك ابنا ، ثم مات العبد المعتق فولاؤه لابن المعتق لصلبه لا لابن ابنه ; لأنه الأكبر إذ هو أقرب عصبات المعتق بنفسها والأصل أنه يعتبر كون المستحق عصبة يوم موت المعتق لا يوم موت المعتق ويعتبر له الكبر من حيث القرب لا من حيث السن ألا ترى أن الابن قد يكون أكبر سنا من عمه الذي هو ابن المعتق ، وهذا على قول عامة العلماء .

وأما على قول إبراهيم وشريح فالمال بين ابن المعتق وبين ابن ابنه نصفين ; لأنه يجري مجرى الميراث عندهما فكما مات المعتق فقد ورثاه جميعا فانتقل الولاء إليهما ، ثم إذا مات أحدهما انتقل نصيبه إلى ولده كما في ميراث المال ، فإن مات الابن الباقي وترك ابنا ، ثم مات المعتق فالولاء بين ابن هذا الميت وبين ابن الميت الأول نصفين بلا خلاف أما على قول عامة العلماء فلاستوائهما في العصوبة .

وأما على قول إبراهيم النخعي وشريح فلانتقال نصيب كل واحد منهما إلى ولده ولو كان الأول حين مات ترك ابنين ، ثم مات الباقي وترك ابنا واحدا ، ثم مات المعتق فالولاء بين ابن هذا وابني الأول يكون ثلاثا عندنا لاستواء الكل في العصوبة ، وعندهما الولاء بينهما نصفين النصف لابن هذا والنصف الآخر بين ابني الأول نصفين ; لأنهما يجعلان لكل ولد واحد حصة أبيه ، فإن مات المعتق وترك ثلاثة بنين فمات البنون وترك أحدهم ابنا واحدا وترك الآخر خمسة بنين وترك الثالث عشرة بنين ، ثم مات العبد المعتق وترك مالا فماله بين أولاد البنين بالسوية على عدد الرءوس في قول عامة العلماء لاستوائهم في العصوبة والقرب من المعتق وعلى قول إبراهيم وشريح المال بينهم أثلاثا ثلث لابن [ ص: 165 ] الابن الواحد والثلث الآخر بين الخمسة بني الابن والثلث الآخر بين العشرة بني الابن فتصح فريضتهم من ثلاثين سهما لابن الابن الواحد عشرة وعشرة بين بني الابن الآخر على خمسة وعشرة بين بني الابن الآخر ، وهو الثالث على عشرة ، ولو أعتق رجل هو وابنه عبدا ، ثم مات الرجل وترك ابنين أحدهما شريكه في الإعتاق ، ثم مات العبد المعتق فنصف الولاء لابنه الذي هو شريك أبيه خاصة ; لأنه شريكه في الإعتاق والنصف الباقي بينهما نصفان ; لأن ذلك حصة أبيه فيكون بينهما بالسوية فيصير الولاء بينهما على أربعة أسهم ثلاثة أرباعه للابن الذي كان شريك أبيه والربع للآخر ، فإن مات شريك أبيه قبل العبد وترك ابنا ، ثم مات العبد المعتق فلابن الابن نصف الولاء الذي كان لأبيه خاصة والنصف الآخر للابن وحده ; لأنه الكبر من عصبة الأب ، فكان أحق بنصيبه من الولاء فيصير نصف الولاء للعم ونصفه لابن أخيه ، فإن مات العم وترك ابنين ، ثم مات العبد المعتق فنصف الولاء لابن شريك أبيه خاصة والنصف الآخر بينه وبين ابني عمه أثلاثا لكل واحد منهم الثلث فيصير لابن شريك أبيه الثلثان ويصير لابني عمه الثلث لكل واحد منهما السدس ، فإن مات المعتق وترك ابنا وأبا ، ثم مات العبد المعتق فالولاء للابن وابن الابن ، وإن سفل لا للأب في قول أبي حنيفة ومحمد وعامة الفقهاء ، وعند أبي يوسف سدسا الولاء للأب والباقي للابن ، وهو قول إبراهيم النخعي وشريك ، وهذا على أصلهما صحيح ; لأنهما ينزلان الولاء منزلة الميراث والحكم في الميراث هذا ، وإنما المشكل قول أبي يوسف ; لأنه لا يحل ما يتركه المعتق بعد موته محل الإرث ، بل يجعله لعصبة المعتق بنفسها والأب لا عصوبة له مع الابن ، بل هو صاحب فريضة كما في ميراث المال ، فكان الابن هو العصبة ، فكان الولاء له .

فإن مات المعتق وترك أبا وثلاثة إخوة متفرقين أخا لأب وأم وأخا لأب وأخا لأم ، ثم مات العبد المعتق فالولاء للأب خاصة ; لأنه العصبة ، فإن مات الأب ، ثم مات العبد المعتق فالولاء للأخ من الأب والأم ; لأنه أقرب العصبات إلى المعتق ، فإن مات الأخ من الأب والأم وترك ابنا فإن الولاء يرجع إلى الأخ لأب ; لأنه الكبر ، فإن مات الأخ من الأب وترك ابنا فإن الولاء يرجع إلى ابن الأخ للأب والأم ; لأنه أقرب ، فإن مات ابن الأخ من الأب والأم وترك ابنا فإن الولاء يرجع إلى ابن الأخ من الأب ; لأنه أقرب ، فإن مات ابن الأخ من الأب وترك ابنا فإن الولاء يرجع إلى ابن ابن الأخ من الأب والأم ; لأنه أقرب ولا يرث الأخ من الأم ولا أحد من ذوي الأرحام شيئا من الولاء لما بينا فيما تقدم ولو مات المعتق وترك جده أبا أبيه وأخاه لأبيه وأمه أو لأبيه فالولاء للجد لا للأخ في قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد الولاء بين الجد والأخ نصفان بناء على أنه لا ميراث للأخ مع الجد عنده ، وعندهما يورثان الأخ مع الجد بالتعصيب ، فإن مات المعتق وترك ابنا وبنتا ، ثم مات العبد المعتق فالولاء للابن لا للبنت ; لأن الابن هو العصبة بنفسه لا البنت ولقول النبي صلى الله عليه وسلم { ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن ، أو كاتبن ، أو كاتب من كاتبن } ولم يوجد ههنا المستثنى فبقي استحقاقها الولاء على أصل النفي وجملة الكلام فيه أن النساء لا يرثن بالولاء إلا ما أعتقن ، أو أعتق من أعتقن ، أو كاتبن ، أو كاتب من كاتبن أو دبرن ، أو دبر من دبرن وأولادهم وأولاد أولادهم ، وإن سفلوا إذا كانوا من امرأة معتقة ، أو ما جر معتقهن من الولاء إليهن ، وبيان هذه الجملة امرأة أعتقت عبدا لها ، ثم مات العبد ولا وارث له فولاؤه للمرأة لقوله صلى الله عليه وسلم خاصة في النساء { ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن } ، وهذا معتقها ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم { الولاء لمن أعتق } ومن تعم الذكر والأنثى فلو أن معتقها أعتق عبدا له ، ثم مات العبد الأسفل ولم يترك وارثا فولاؤه لمولاه الذي أعتقه ولا يرث مولاه منه شيئا ; لأنه معتق مولاه وليس بمعتقها حقيقة ، بل معتق معتقها ، فكان إثبات الولاء للمعتق حقيقة أولى ، فإن مات العبد الأعلى ولم يترك عصبة ، ثم مات العبد الأسفل فولاؤه للمرأة المعتقة ; لأنه معتق معتقها فيدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم { أو أعتق } من أعتقن ولو ترك العبد الأعلى عصبة فماله لعصبته لما ذكرنا أن شرط الإرث بالولاء أن لا يكون للمعتق عصبة من النسب ، وكذلك لو أن المعتق الثاني أعتق ثالثا والثالث أعتق رابعا فميراثهم كلهم إذا ماتوا لها إذا لم يخلف من مات منهم مولى أقرب إليه منها ولا عصبة ولو كاتبت [ ص: 166 ] المرأة عبدا لها فأدى فعتق ثم مات العبد المكاتب فولاؤه لها ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم { أو كاتبن } وكذا لو كان العبد المكاتب كاتب عبدا له من أكسابه فأدى الأسفل أولا فعتق ، كان ولاؤه لها ; لأن الأعلى ليس من أهل الولاء لأنه عبد مملوك بعد ، وكذا إذا أديا جميعا معا فعتقا فولاؤهما لها لقوله صلى الله عليه وسلم { أو كاتب } من كاتبن وكذا إذا دبرت امرأة عبدا لها فماتت ثم مات العبد ، كان ولاؤها منها حتى يكون للذكور من عصبتها وكذا إذا ماتت المرأة حتى عتق المدبر بموتها فدبر عبدا له فولاؤه يكون لعصبتها ، وكذا ولاء أولادها وولاء أولاد أولادهم الذين ولدوا من امرأة معتقة يكون لها ; لأن ولاءهم يثبت لآبائهم ، وولاء آبائهم لها ، كذا ولاء أولادهم .

امرأة زوجت عبدها بمولاة قوم فولدت ولدا فولاء الولد يكون لمولى أمه ولا يكون للمرأة منه شيء ، وهذا مما لا يشك فيه ; لأن أبا الولد ليس بمعتق بل هو عبد مملوك ولا يتصور ولاء العتاقة بدون العتق فلو أعتقت المرأة عبدها جر العبد المعتق ولاء الولد إلى مولاته حتى لو مات الولد ولا وارث له كان ماله لأبيه ، فإن لم يكن له أب فإن كان مات فولاؤه للمرأة التي أعتقت أباه ، هذا تفسير جر موالي النساء الولاء إليهن والله عز وجل أعلم .

امرأة أعتقت عبدا لها ثم ماتت ثم مات العبد المعتق فولاء معتقها لولدها الذكور إن كانوا من عصبتها ، وعقله عليهم أيضا بلا خلاف ، وإن كانوا من غير عصبتها فولاء معتقها لولدها الذكور الذين هم من غير عصبتها ، وعقله على سائر عصبتها دون ولدها فإن انقرض ولدها وخلفوا عصبة لهم ليسوا من قوم المرأة المعتقة ولها عصبة كان لعصبتها دون عصبة ابنها ; لأن الولاء للكبر ، وأنه لا يورث ، وكذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يرجع الولاء إلى عصبتها إذا انقطع ولدها الذكور وهو قول عامة العلماء ، وإذا لم يكن لها عصبة من نسب وكان لها موال أعتقوها فالولاء لمواليها ، وكان شريح يجعل الولاء بعد بنيها لعصبة البنين دون عصبتها ; لأنه يجعل الولاء ميراثا كالمال ، وبيان هذه الجملةامرأة أعتقت عبدا ثم ماتت وتركت ابنا وأخا لها ، ثم مات العبد المعتق ، فماله لابنها لا لأخيها بلا خلاف ، فإن مات ابنها وترك أخا له وأباه فإن الولاء للخال دون الأب ; لأن الخال أخ المعتقة وهو عصبتها والأب لا قرابة بينه وبين المعتقة ، وعلى قول شريح الولاء الذي للأخ ينبغي أن يكون للأب لا للخال ; لأن الأب عصبة الابن ، وكذلك إذا مات الابن وترك أخا لأب أو عما أو جدا من قبل أبيه أو ترك ابن عم أو ترك موالي أبيه فهذا كله سواء ، والولاء يرجع إلى عصبة الأم ، الأقرب منهم فالأقرب إن كان لها بنو عم يرجع إليهم ، وإن لم يكن وكان لها موال أعتقوها يرجع الولاء إليهم ، وفي قول شريح لا يرجع الولاء ، ويمضي على جهته ، وعن الشعبي وابن أبي ليلى إن الولاء للذكور من ولدها ، والعقل عليهم أيضا دون سائر عصبة المعتقة ، وقالا كما يرثونه كذلك يعقلون عنه ; لأن الخراج بالضمان والصحيح قول العامة لما أن عليا والزبير رضي الله عنهما اختصما إلى عمر رضي الله عنه في ولاء مولى صفية بنت عبد المطلب فقال الزبير : هي أمي فأنا أرثها ولي ولاؤها ، وقال علي : هي عمتي وأنا عصبتها ، وأنا أعقل عنها فلي ولاؤها فقضى عمر رضي الله عنه بالولاء للزبير ، وبالعقل على علي رضي الله عنه .

والمعنى فيه أن استحقاق الميراث بالعصوبة ، والابن في ذلك مقدم على الأخ وابن العم وأما العقل فبالتناصر .

ألا ترى أن أهل الديوان يتعاقلون بالتناصر ولا ميراث بينهم ولا عصوبة ، والتناصر لها ولمولاها بقوم أبيها لا بابنها ؟ كذلك كان العقل عليهم واعتبار العقل بالميراث غير سديد ; لأن العقل ليس يتبع الميراث لا محالة ألا ترى أن الرجل يرثه ولده الذكور والإناث وأخواته ولو جنى جناية لها عقل كان عقلها على عصبته دون ولده وأخواته ؟ ولو أعتق أمة له ثم غرقا جميعا ولا يدري أيهما مات أولا ، لم يرث المولى منها وكان ميراثه لعصبة المولى إن لم يكن لها وارث ، وأصل المسألة أن الغرقى والهدمى لا يرث بعضهم بعضا عندنا ، وهو قول عامة الصحابة رضي الله عنهم ; لأن كل أمرين حادثين لا يعرف تاريخهما يجعل كأنهما وقعا معا والمسألة تعرف في كتاب الفرائض .

التالي السابق


الخدمات العلمية