بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ومنها أنه لازم حتى لا يقدر المعتق على إبطاله حتى لو أعتق عبده سائبة ، بأن أعتقه وشرط أن يكون سائبة لا ولاية له عليه ، كان شرطه باطلا وولاؤه له عند عامة العلماء وقال مالك : ولاؤه لجميع المسلمين والصحيح قول العامة ; لقوله صلى الله عليه وسلم { الولاء لمن أعتق } .

وكذا لا يملك نقله إلى غيره حتى لا يجوز بيعه [ ص: 167 ] وهبته والتصدق به ، والوصية وهذا قول عامة العلماء .

وقال بعضهم : يملك نقله بالبيع وغيره واحتجوا بما روي أن أسماء رضي الله عنها أعتقت عبدا فوهبت الولاء لابن مسعود رضي الله عنهما .

ولنا قوله صلى الله عليه وسلم { : الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب } .

ولأن محل هذه التصرفات المال ، والولاء ليس بمال فلا يجوز بيعه كالنسب .

وأما ما روي عن أسماء رضي الله عنها فيحتمل أن يكون معناه وهبت له ما استحقت بالولاء وهو المال فرواه الراوي ولاء لكونه مستحقا بالولاء أو يحمل على هذا توفيقا بين الدلائل ، وكذا إذا باع عبدا وشرط على المشتري أن يكون ولاؤه له فالشرط باطل ويكون ولاؤه للمشتري إذا أعتق عبده وشرط أن يكون ولاؤه لجماعة المسلمين لم يصح ، ويكون ولاؤه له لما روي { أن عائشة رضي الله عنها لما اشترت بريرة شرط عليها أن يكون ولاؤها لمواليها فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في خطبته ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط } وهل يحتمل الولاء التحول من محل إلى محل ؟ ينظر فيه إن ثبت بإيقاع العتق فيه لا يتحول أبدا ; لقوله صلى الله عليه وسلم { الولاء لمن أعتق } ألزم الولاء المعتق وإن ثبت بحصول العتق لغيره ، تبعا يتحول إذا قام دليل التحول ، وبيان هذه الجملة عند تزوج أمة لقوم فولدت منه ولدا فأعتقها مولاها وولدها أو كانت حبلى به حين أعتقها أو أعتقها فولدت بعد العتق لأقل من ستة أشهر ، أو كانت معتدة من طلاق أو موت فولدت لتمام سنتين من يوم الموت أو الطلاق وقد أعتق الأب رجل آخر كان ولاء الولد للذي أعتقه مع أمه ، ولا يتحول إلى مولى أبيه وإن أعتق أبوه بعد ذلك ; لأنه لما أعتقهما فقد ثبت ولاء الولد بإيقاع العتق فيه فلا يحتمل التحول ، وكذا إذا أعتقها وهي حبلى لما قلنا ، وكذا إذا أعتقها ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت الإعتاق لأنا تيقنا بكونه في البطن وقت الإعتاق ; لأن الولد يولد لأقل من ستة أشهر فيثبت ولاؤه بالإعتاق فلا يتحول ، ولو جاءت بولد لستة أشهر فصاعدا يتحول ولاؤه إلى موالي الأب ; لأنا لم نعلم يقينا أنه كان في البطن وقت إعتاق الأم فيجعل كأنها حبلت بعد العتق فيكون حرا تبعا للأم ، ويثبت له الولاء من موالي أمه على جهة التبعية ، وولاء الولد إذا ثبت لموالي الأم على وجه التبعية يتحول إلى موالي الأب إذا أعتق الأب لما نذكر إن شاء الله عز وجل وإذا كانت الأم معتدة من طلاق أو موت فإن نسب الولد يثبت إلى سنتين ; لأن الوطء كان حراما فيجعل مدة الحمل سنتين ويحكم بكون الولد في البطن يوم الإعتاق ، فإذا حكمنا بوجوده يوم الإعتاق يثبت الولاء بالإعتاق فلا يتحول إلى غيره وإذا كانت المعتقة تحت مملوك فولدت عتق الولد بعتقها ; لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية فإن أعتق أبوه جر ولاء الولد إلى مولاه .

هكذا روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : إذا كانت الحرة تحت مملوك فولدت عتق الولد بعتقها ، فإذا أعتق أبوه جر الولاء .

وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه أبصر فتية لعساء أعجبه ظرفهم ، وأمهم مولاة لرافع بن خديج رضي الله عنه وأبوهم عبد لبعض ( الحرقة ) من جهينة أو لبعض أشجع فاشترى الزبير أباهم فأعتقه ، ثم قال : انتسبوا إلي ، وقال رافع : بل هم موالي فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه في ولاء الولد فقضى بولائهم للزبير .

يعني أن الأب جر ولاء ولده إلى مولاهم وهو الزبير حين أعتقه الزبير وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد فيكون إجماعا ولأن الأصل في الولاء هو الأب لأن الولاء لحمة كلحمة النسب ، والأب هو الأصل في النسب حتى ينسب الولد إلى الأب ولا ينسب إلى الأم إلا عند تعذر النسبة إلى الأب ، وكذا في اعتبار الولاء وإنما يعتبر جانب الأم عند تعذر الاعتبار من جانب الأب بأن لم يكن من أهل الولاء ولا تعذر ههنا فيعتبر جانبه ، ولأن الإرث بالولاء من طريق العصوبة ، والتعصيب من قبل الأب أقوى فكان أولى ، ولو مات الأب عبدا ولم يعتق كان ولاء ولده لموالي الأم أبدا لتعذر اعتبار جانب الأب .

وأما الجد فهل يجر ولاء الحافد بأن كان للأب الذي هو عبد أب عبد ، وهو جد الصبي فأعتق الجد ، والأب عبد على حاله قال عامة العلماء : لا يجر ولا يكون مسلما بإسلام الجد ، وولاء أولاد ابنه العبد لموالي الأم لا لموالي الجد ، وقال الشعبي : يجر ، ويكون مسلما بإسلام الجد ، وجه قوله : إن الجد يقوم مقام الأب في الولاية فإن الأب إذا كان عبدا تتحول الولاية إلى الجد ، فكذا يقوم مقامه في جر الولاء والإسلام ، ولنا أن الأب [ ص: 168 ] فاصل بين الابن والجد ، فلا يكون الابن تابعا له في الولاء والإسلام ، لأن الجد لو جر الولاء لكان لا يثبت الولاء لموالي الأم رأسا ، إذ لا شك أن أصله يكون حرا أما من الجد أي لأبيه أو من قبله من الأجداد إلى آدم صلى الله عليه وسلم فلما ثبت الولاء لموالي الأم في الجملة ثبت أن الجد لا يجر ، وكذا لا يصير مسلما بإسلام الجد ; لأنه لو صار مسلما بإسلامه لصار مسلما بإسلام جد الجد ، ولكان الناس كلهم مسلمين بإسلام آدم صلى الله عليه وسلم وينبغي أن لا يجوز استرقاق أحد ، والمعلوم بخلافه فثبت أن القول بجعل الولد تابعا للجد في الولاء باطل .

التالي السابق


الخدمات العلمية