بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( كتاب الإجارة ) :

الكلام في هذا الكتاب يقع في سبع مواضع : في بيان جواز الإجارة ، وفي بيان ركن الإجارة ، ومعناها ، وفي بيان شرائط الركن ، وفي بيان صفة الإجارة ، وفي بيان حكم الإجارة ، وفي بيان حكم اختلاف العاقدين في عقد الإجارة ، وفي بيان ما ينتهي به عقد الإجارة أما الأول فالإجارة جائزة عند عامة العلماء .

وقال أبو بكر الأصم : إنها لا تجوز ، والقياس ما قاله ; لأن الإجارة بيع المنفعة والمنافع للحال معدومة ، والمعدوم لا يحتمل البيع فلا يجوز إضافة البيع إلى ما يؤخذ في المستقبل كإضافة البيع إلى أعيان تؤخذ في المستقبل فإذا لا سبيل إلى تجويزها لا باعتبار الحال ، ولا باعتبار المآل فلا جواز لها رأسا لكنا استحسنا الجواز بالكتاب العزيز ، والسنة ، والإجماع .

أما الكتاب العزيز فقوله عز وجل خبرا عن أب المرأتين اللتين سقى لهما موسى عليه الصلاة والسلام { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } أي على أن تكون أجيرا لي أو على أن تجعل عوضي من إنكاحي ابنتي إياك رعي غنمي ثماني حجج ، يقال : آجره الله تعالى أي عوضه ، وأثابه ، وقوله عز وجل خبرا عن تينك المرأتين { قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } وما قص الله علينا من شرائع من قبلنا من غير نسخ يصير شريعة لنا مبتدأة ويلزمنا على أنه شريعتنا لا على أنه شريعة من قبلنا لما عرف في أصول الفقه ، وقوله عز وجل { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } والإجارة ابتغاء الفضل ، وقوله عز وجل { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وقد قيل نزلت الآية في حج المكاري فإنه روي أن رجلا جاء إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال : إنا قوم نكرى ، ونزعم أن ليس لنا حج فقال : ألستم تحرمون ، وتقفون ، وترمون ؟ فقال : نعم ، فقال رضي الله عنه : أنتم حجاج ، ثم قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني فلم يجبه حتى أنزل الله عز وجل { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم حجاج ، وقوله عز وجل في استئجار الظئر { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا [ ص: 174 ] جناح عليكم } نفى سبحانه وتعالى الجناح عمن يسترضع ولده ، والمراد منه الاسترضاع بالأجرة ، دليله قوله تعالى { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } قيل أي الأجر الذي قبلتم ، وقوله { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وهذا نص وهو في المطلقات .

وأما السنة فما روى محمد في الأصل عن أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يستام الرجل على سوم أخيه ولا ينكح على خطبته ، ولا تناجشوا ، ولا تبيعوا بإلقاء الحجر ، ومن استأجر أجيرا فليعلمه أجره } وهذا منه صلى الله عليه وسلم تعليم شرط جواز الإجارة وهو إعلام الأجر فيدل على الجواز .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه } أمر صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إلى إعطاء أجر الأجير قبل فراغه من العمل من غير فصل ، فيدل على جواز الإجارة ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ، ولم يعطه أجره } ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت { : استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه رجلا من بني الديل هاديا خريتا ، وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث فأتاهما فارتحلا ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة ، والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل } وأدنى ما يستدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الجواز .

وروي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رافع بن خديج ، وهو في حائطه فأعجبه فقال : لمن هذا الحائط فقال : لي يا رسول الله استأجرته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تستأجره بشيء منه } خص صلى الله عليه وسلم النهي باستئجاره ببعض الخارج منه ولو لم تكن الإجارة جائزة أصلا لعم النهي إذ النهي عن المنكر واجب ، وكذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يؤاجرون ويستأجرون فلم ينكر عليهم فكان ذلك تقريرا منه والتقرير أحد وجوه السنة .

وأما الإجماع فإن الأمة أجمعت على ذلك قبل وجود الأصم حيث يعقدون عقد الإجارة من زمن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا من غير نكير ، فلا يعبأ بخلافه إذ هو خلاف الإجماع ، وبه تبين أن القياس متروك لأن الله تعالى إنما شرع العقود لحوائج العباد ، وحاجتهم إلى الإجارة ماسة ; لأن كل واحد لا يكون له دار مملوكة يسكنها أو أرض مملوكة يزرعها أو دابة مملوكة يركبها وقد لا يمكنه تملكها بالشراء لعدم الثمن ، ولا بالهبة والإعارة ; لأن نفس كل واحد لا تسمح بذلك فيحتاج إلى الإجارة فجوزت بخلاف القياس لحاجة الناس كالسلم ونحوه ، تحقيقه أن الشرع شرع لكل حاجة عقدا يختص بها فشرع لتمليك العين بعوض عقدا وهو البيع ، وشرع لتمليكها بغير عوض عقدا وهو الهبة ، وشرع لتمليك المنفعة بغير عوض عقدا وهو الإعارة ، فلو لم يشرع الإجارة مع امتساس الحاجة إليها لم يجد العبد لدفع هذه الحاجة سبيلا وهذا خلاف موضوع الشرع .

التالي السابق


الخدمات العلمية