بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما شرائط الركن فأنواع بعضها شرط الانعقاد وبعضها شرط النفاذ وبعضها شرط الصحة وبعضها شرط اللزوم أما شرط الانعقاد فثلاثة أنواع نوع يرجع إلى العاقد ، ونوع يرجع إلى نفس العقد ، ونوع يرجع إلى مكان العقد .

أما الذي يرجع إلى العاقد فالعقل وهو أن يكون العاقد عاقلا حتى لا تنعقد الإجارة من المجنون والصبي الذي لا يعقل ، كما لا ينعقد البيع منهما .

وأما البلوغ فليس من شرائط الانعقاد ولا من شرائط النفاذ عندنا ، حتى إن الصبي العاقل لو أجر ماله أو نفسه فإن كان مأذونا ينفذ وإن كان محجورا يقف على إجازة الولي عندنا خلافا للشافعي وهي من مسائل المأذون .

ولو أجر الصبي المحجور نفسه وعمل وسلم من العمل يستحق الأجر ويكون الأجر له ، أما استحقاق الأجر فلأن عدم النفاذ كان نظرا له والنظر بعد الفراغ من العمل سليما في النفاذ فيستحق الأجرة ولا يهدر سعيه فيتضرر به ، وكان الولي أذن له بذلك دلالة بمنزلة قبول الهبة من الغير .

وأما كون الأجرة المسماة له فلأنها بدل منافع وهي حقه ، وكذا حرية العاقد ليست بشرط لانعقاد هذا العقد ولا لنفاذه عندنا ، فينفذ عقد المملوك إن كان مأذونا ويقف على إجازة مولاه إن كان محجورا ، وعند الشافعي لا يقف بل يبطل ، وإذا سلم من العمل في إجارة نفسه أو إجارة مال المولى وجب الأجر المسمى لما ذكرنا في الصبي إلا أن الأجر هنا يكون للمولى ; لأن العبد ملك المولى ، والأجر كسبه ، وكسب المملوك للمالك ، ولو هلك الصبي أو العبد في يد المستأجر في المدة ضمن ; لأنه صار غاصبا حيث استعملهما من غير إذن المولى ولا يجب الأجر ; لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان ، ولو قتل العبد أو الصبي خطأ فعلى عاقلته الدية أو القيمة وعليه الأجر في ماله ; لأن إيجاب الأجرة ههنا لا يؤدي إلى الجمع لاختلاف من عليه الواجب ، وللمكاتب أن يؤاجر ويستأجر ; لأنه في مكاسبه كالحر .

وأما كون العاقد طائعا جادا عامدا فليس بشرط لانعقاد هذا العقد ولا لنفاذه عندنا لكنه من شرائط الصحة كما في بيع العين ، وإسلامه ليس بشرط أصلا فتجوز الإجارة والاستئجار من المسلم ، والذمي ، والحربي المستأمن لأن هذا من عقود المعاوضات فيملكه المسلم ، والكافر جميعا كالبياعات ، غير أن الذمي إن استأجر دارا من مسلم في المصر فأراد أن يتخذها مصلى للعامة ويضرب فيها بالناقوس له ذلك ، ولرب الدار وعامة المسلمين أن يمنعوه من ذلك على طريق الحسبة لما فيه من إحداث شعائر لهم وفيه تهاون بالمسلمين ، واستخفاف بهم كما يمنع من إحداث ذلك في دار نفسه في أمصار المسلمين ولهذا يمنعون من إحداث الكنائس في أمصار المسلمين قال النبي صلى الله عليه وسلم { : لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة } أي لا يجوز إخصاء الإنسان ولا إحداث الكنيسة في دار الإسلام في الأمصار ، ولا يمنع أن يصلي فيها بنفسه من غير جماعة ; لأنه ليس فيه ما ذكرناه من المعنى ألا ترى أنه لو فعل ذلك في دار نفسه لا يمنع منه ، ولو كانت الدار بالسواد ذكر في الأصل أنه لا يمنع من ذلك لكن قيل إن أبا حنيفة إنما أجاز ذلك في زمانه ; لأن أكثر أهل السواد في زمانه كانوا أهل الذمة من المجوس فكان لا يؤدي ذلك إلى الإهانة ، والاستخفاف بالمسلمين .

وأما اليوم فالحمد لله عز وجل فقد صار السواد كالمصر فكان الحكم فيه كالحكم في المصر ، وهذا إذا لم يشرط ذلك في العقد فأما إذا شرط بأن استأجر ذمي دارا من مسلم في مصر من أمصار المسلمين ليتخذها مصلى للعامة لم تجز الإجارة ; لأنه استئجار على المعصية وكذا لو استأجر ذمي من ذمي ليفعل ذلك لما قلنا ، ولا بأس باستئجار ظئر كافرة ، والتي ولدت من فجور ; لأن الكفر والفجور لا يؤثران في اللبن ; لأن لبنهما لا يضر بالصبي ، ويكره استئجار الحمقاء لقوله صلى الله عليه وسلم { لا ترضع لكم الحمقاء فإن اللبن يفسد } والظاهر أن المراد منه غير الأم ; لأن الولادة أبلغ من الرضاع ، نهى وعلل بالإفساد ; لأن حمقها لمرض بها عادة ولبن المريضة يضر بالصبي ويحتمل أن النهي عن ذلك لئلا يتعود الصبي بعادة الحمقى ; لأن الصبي يتعود بعادة ظئره والله أعلم ، وأما الذي يرجع إلى نفس العقد ، ومكانه فما ذكرنا في كتاب البيوع .

التالي السابق


الخدمات العلمية