بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ولو وقعت نجاسة في الماء القليل ، فالماء القليل لا يخلو من أن يكون في الأواني أو في البئر أو في الحوض الصغير ، فإن كان في الأواني فهو نجس كيفما كانت النجاسة متجسدة أو مائعة ; لأنه لا ضرورة في الأواني لإمكان صونها عن النجاسات ، حتى لو وقعت بعرة أو بعرتان في المحلب عند الحلب ، ثم رميت من ساعتها لم ينجس اللبن ، كذا روى عنه خلف بن أيوب ، ونصير بن يحيى ومحمد بن مقاتل الرازي ، لمكان الضرورة ، وإن كان في البئر فالواقع فيه لا يخلو من أن يكون حيوانا أو غيره من النجاسات ، فإن كان حيوانا فإما إن أخرج حيا ، وإما إن أخرج ميتا ، فإن أخرج حيا فإن كان نجس العين كالخنزير ينجس جميع الماء وفي الكلب اختلاف المشايخ في كونه نجس العين ، فمن جعله نجس العين استدل بما ذكر في العيون عن أبي يوسف أن الكلب إذا وقع في الماء ، ثم خرج منه فانتفض ، فأصاب إنسانا منه أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته .

وذكر في العيون أيضا أن كلبا لو أصابه المطر فانتفض ، فأصاب إنسانا منه أكثر من قدر الدرهم إن كان المطر الذي أصابه وصل إلى جلده ; فعليه أن يغسل الموضع الذي أصابه وإلا فلا ، ونص محمد في الكتاب قال : وليس الميت بأنجس من الكلب والخنزير ، فدل أنه نجس العين وجه قول من قال : إنه ليس نجس العين أنه يجوز بيعه ويضمن متلفه ، ونجس العين ليس محلا للبيع ، ولا مضمونا بالإتلاف كالخنزير ، دل عليه أنه يطهر جلده بالدباغ ، ونجس العين لا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير ، وكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة في الكلب والسنور وقعا في الماء القليل ، ثم خرجا أنه يعجن بذلك ; ولذلك قال مشايخنا فيمن صلى وفي كمه جرو كلب : إنه تجوز صلاته وقيد الفقيه أبو جعفر الهندواني الجواز بكونه مسدود الفم ، فدل أنه ليس بنجس العين ، وهذا أقرب القولين إلى الصواب ، وإن لم يكن نجس العين فإن كان آدميا ليس على بدنه نجاسة حقيقية ولا حكمية - وقد استنجى - لا ينزح شيء في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ينزح عشرون دلوا ، وهذه الرواية لا تصح ; لأن الماء إنما يصير مستعملا بزوال الحدث أو بقصد القربة ولم يوجد شيء من ذلك ، وإن كان على بدنه نجاسة حقيقية أو لم يكن مستنجيا ينزح جميع الماء ; لاختلاط النجس بالماء ، وإن كان على بدنه نجاسة حكمية بأن كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء ، فعلى قول من لا يجعل هذا الماء مستعملا لا ينزح شيء ; لأنه طهور ، وكذا قول من جعله مستعملا وجعل الماء المستعمل طاهرا ; لأن غير المستعمل أكثر ، فلا يخرج عن كونه طهورا ما لم يكن المستعمل غالبا عليه ، كما لو صب اللبن في البئر بالإجماع أو بالت شاة فيها عند محمد وأما على قول من جعل هذا الماء مستعملا وجعل الماء المستعمل نجسا ، ينزح ماء البئر كله كما لو وقعت فيها قطرة من دم أو خمر وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إن كان محدثا ينزح أربعون ، وإن كان جنبا ينزح كله وهذه الرواية مشكلة ; لأنه لا يخلو إما أن صار هذا الماء مستعملا أو لا ، فإن لم يصر مستعملا لا يجب نزح شيء ; لأنه بقي طهورا كما كان ، وإن صار مستعملا فالماء المستعمل عند الحسن نجس نجاسة غليظة فينبغي أن يجب نزح جميع الماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية