بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما الثاني : فنوعان أحدهما : سلامة المستأجر عن حدوث عيب به يخل بالانتفاع به فإن حدث به عيب يخل بالانتفاع به لم يبق العقد لازما حتى لو استأجر عبدا يخدمه أو دابة يركبها أو دارا يسكنها فمرض العبد أو عرجت الدابة أو انهدم بعض بناء الدار فالمستأجر بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ بخلاف البيع إذا حدث بالمبيع عيب بعد القبض أنه ليس للمشتري أن يرده .

لأن الإجارة بيع المنفعة والمنافع تحدث شيئا فشيئا فكان كل جزء من أجزاء المنافع معقودا مبتدأ فإذا حدث العيب [ ص: 196 ] بالمستأجر كان هذا عيبا حدث بعد العقد قبل القبض وهذا يوجب الخيار في بيع العين كذا في الإجارة فلا فرق بينهما من حيث المعنى وإذا ثبت الخيار للمستأجر فإن لم يفسخ ومضى على ذلك إلى تمام المدة فعليه كمال الأجرة ; لأنه رضي بالمعقود عليه مع العيب فيلزمه جميع البدل كما في بيع العين إذا اطلع المشتري على عيب فرضي به وإن زال العيب قبل أن يفسخ بأن صح العبد ، وزال العرج عن الدابة ، وبنى المؤاجر ما سقط من الدار بطل خيار المستأجر ; لأن الموجب للخيار قد زال والعقد قائم فيزول الخيار هذا إذا كان العيب مما يضر بالانتفاع بالمستأجر فإن كان لا يضر بالانتفاع به بقي العقد لازما ولا خيار للمستأجر كالعبد المستأجر إذا ذهبت إحدى عينيه وذلك لا يضر بالخدمة أو سقط شعره أو سقط من الدار المستأجرة حائط لا ينتفع به في سكناها ; لأن العقد ورد على المنفعة لا على العين إذ الإجارة بيع المنفعة لا بيع العين ولا نقصان في المنفعة بل في العين والعين غير معقود عليها في باب الإجارة وتغير عين المعقود عليه لا يوجب الخيار بخلاف ما إذا كان العيب الحادث مما يضر بالانتفاع ; لأنه إذا كان يضر بالانتفاع فالنقصان يرجع إلى المعقود عليه فأوجب الخيار فله أن يفسخ ثم إنما يلي الفسخ إذا كان المؤاجر حاضرا فإن كان غائبا فحدث بالمستأجر ما يوجب حق الفسخ فليس للمستأجر أن يفسخ ; لأن فسخ العقد لا يجوز إلا بحضور العاقدين أو من يقوم مقامهما وقال هشام عن محمد في رجل استأجر أرضا سنة يزرعها شيئا ذكره فزرعها فأصاب الزرع آفة من برد أو غيره فذهب به وتأخر وقت زراعة ذلك النوع فلا يقدر أن يزرع قال : إن أراد أن يزرع شيئا غيره مما ضرره على الأرض أقل من ضرره أو مثل ضرره فله ذلك وإلا فسخت عليه الإجارة وألزمته أجر ما مضى ; لأنه إذا عجز عن زراعة ذلك النوع كان استيفاء الإجارة إضرارا به قال : وإذا نقص الماء عن الرحى حتى صار يطحن أقل من نصف طحنه فذلك عيب ; لأنه لا يقدر على استيفاء العقد إلا بضرر وهو نقصان الانتفاع ولو انهدمت الدار كلها أو انقطع الماء عن الرحى أو انقطع الشرب عن الأرض فقد اختلفت إشارة الروايات فيه ذكر في بعضها ما يدل على أن العقد ينفسخ فإنه ذكر في إجارة الأصل إذا سقطت الدار كلها فله أن يخرج كان صاحب الدار شاهدا أو غائبا فهذا دليل الانفساخ حيث جوز للمستأجر الخروج من الدار مع غيبة المؤاجر ولو لم تنفسخ توقف جواز الفسخ على حضوره والوجه فيه أن المنفعة المطلوبة من الدار قد بطلت بالسقوط إذ المطلوب منها الانتفاع بالسكنى وقد بطل ذلك فقد هلك المعقود عليه فينفسخ العقد وذكر في بعضها ما يدل على أن العقد لا ينفسخ لكن يثبت حق الفسخ ذكر في كتاب الصلح إذا صالح على سكنى دار فانهدمت لم ينفسخ الصلح ، وروى هشام عن محمد فيمن استأجر بيتا ، وقبضه ثم انهدم فبناه الآجر فقال المستأجر بعد ما بناه : لا حاجة لي فيه قال محمد : ليس للمستأجر ذلك وكذلك لو قال المستأجر : آخذه ، وأبى الآجر ليس للآجر ذلك وهذا يجرى مجرى النص على أن الإجارة لم تنفسخ ووجهه أن الدار بعد الانهدام بقيت منتفعا بها منفعة السكنى في الجملة بأن يضرب فيها خيمة فلم يفت المعقود عليه رأسا فلا ينفسخ العقد على أنه إن فات كله لكن فات على وجه يتصور عوده وهذا يكفي لبقاء العقد كمن اشترى عبدا فأبق قبل القبض والأصل فيه أن العقد المنعقد بيقين يبقى لتوهم الفائدة ; لأن الثابت بيقين لا يزال بالشك كما أن غير الثابت بيقين لا يثبت بالشك ، وذكر القدوري وقال : الصحيح أن العقد ينفسخ لما ذكرنا أن المنفعة المطلوبة من الدار قد بطلت وضرب الخيمة في الدار ليس بمنفعة مطلوبة من الدار عادة فلا يعتبر بقاؤه لبقاء العقد وقال فيما ذكره محمد في البيت إذا بناه المؤاجر : إنه لما بناه تبين أن العقد لم ينفسخ حقيقة وإن حكم بفسخه ظاهرا فيجبر على التسليم والقبض وليس يمتنع الحكم بانفساخ عقد في الظاهر مع التوقف في الحقيقة اشترى شاة فماتت في يد البائع فدبغ جلدها أنه يحكم ببقاء العقد بعد الحكم بانفساخه ظاهرا بموت الشاة كذا ههنا وإذا بقي العقد يجبر على التسليم والتسلم وقبل البناء لا يعلم أن العقد لم ينفسخ حقيقة فيجب العمل بالظاهر ، وذكر محمد في السفينة إذا نقضت وصارت ألواحا ثم بناها المؤاجر أنه لا يجبر على تسليمها إلى المستأجر فقد فرق بين السفينة وبين البيت ، ووجه الفرق أن العقد في السفينة قد انفسخ حقيقة ; لأن الأصل فيها الصناعة وهي التركيب [ ص: 197 ] والألواح تابعة للصناعة بدليل أن من غصب خشبة فعملها سفينة ملكها فكان تركيب الألواح بمنزلة اتخاذ سفينة أخرى فلم يجبر على تسليمها إلى المستأجر بخلاف الدار ; لأن عرصة الدار ليست بتابعة للبناء بل العرصة فيها أصل فإذا بناها فقد بنى تلك الدار بعينها فيجبر على التسليم وقال محمد فيمن استأجر رحى ماء سنة فانقطع الماء بعد ستة أشهر فأمسك الرحى حتى مضت المدة فعليه أجر للستة أشهر الماضية ولا شيء عليه لما بقي ; لأن منفعة الرحى قد بطلت فانفسخ العقد قال : فإن كان البيت ينتفع به لغير الطحن فعليه من الأجر بحصته ; لأنه بقي شيء من المعقود عليه له حصة في العقد فإذا استوفى لزمه حصته فإن سلم المؤاجر الدار إلا بيتا منها ثم منعه رب الدار أو غيره بعد ذلك من البيت فلا أجر على المستأجر في البيت ; لأنه استوفى بعض المعقود عليه دون بعض فلا يكون عليه حصة ما لم يستوف وللمستأجر أن يمتنع من قبول الدار بغير البيت وأن يفسخ الإجارة إذا حدث ذلك بعد قبضه ; لأن الصفقة تفرقت في المعقود عليه وهو المنافع وتفرق الصفقة يوجب الخيار ولو استأجر دارا أشهرا مسماة فلم تسلم إليه الدار حتى مضى بعض المدة ثم أراد أن يتسلم الدار فيما بقي من المدة فله ذلك وليس للمستأجر أن يأبى ذلك وكذلك لو كان المستأجر طلبها من المؤاجر فمنعه إياها ثم أراد أن يسلمها فذلك له وليس للمستأجر أن يمتنع ; لأن الخيار إنما يثبت بحدوث تفرق الصفقة بعد حصولها مجتمعة والصفقة ههنا حينما وقعت وقعت متفرقة لأن المنافع تحدث شيئا فشيئا فكان كل جزء من المنافع كالمعقود عليه عقدا مبتدأ فكان أول جزء من المنفعة مملوكا بعقد والثاني مملوكا بعقد آخر وما ملك بعقدين فتعذر التسليم في أحدهما لا يؤثر في الآخر فإن استأجر دارين فسقطت إحداهما أو منعه مانع من إحداهما أو حدث في إحداهما عيب فله أن يتركهما جميعا ; لأن العقد وقع عليهما صفقة واحدة وقد تفرقت عليه فيثبت له الخيار والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية