بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
، وللمستأجر في إجارة الدار وغيرها من العقار أن ينتفع بها كيف شاء بالسكنى ، ووضع المتاع ، وأن يسكن بنفسه ، وبغيره ، وأن يسكن غيره بالإجارة ، والإعارة .

إلا أنه ليس له أن يجعل فيها حدادا ، ولا قصارا ، ونحو ذلك مما يوهن البناء لما بينا فيما تقدم ، ولو أجرها المستأجر بأكثر من الأجرة الأولى فإن كانت الثانية من خلاف جنس الأولى طابت له الزيادة ، وإن كانت من جنس الأولى لا تطيب له حتى يزيد في الدار زيادة من بناء أو حفر أو تطيين أو تجصيص .

فإن لم يزد فيه شيئا فلا خير في الفضل ويتصدق به ، لكن تجوز الإجارة ، أما جواز الإجارة فلا شك فيه ; لأن الزيادة في عقد لا تعتبر فيه المساواة بين البدل والمبدل لا تمنع صحة العقد ، وههنا كذلك ، فيصح العقد .

وأما التصدق بالفضل إذا كانت الأجرة الثانية من جنس الأولى فلأن الفضل ربح ما لم يضمن ; لأن المنافع لا تدخل في ضمان المستأجر ، بدليل أنه لو هلك المستأجر فصار بحيث لا يمكن الانتفاع به كان الهلاك على المؤاجر ، وكذا لو غصبه غاصب فكانت الزيادة ربح ما لم يضمن ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فإن كان هناك زيادة كان الربح في مقابلة الزيادة ، فيخرج من أن يكون ربحا ، ولو كنس البيت فلا يعتبر ذلك ; لأنه ليس بزيادة ، فلا تطيب به زيادة الأجر ، وكذا في إجارة الدابة إذا زاد في الدابة جوالق أو لجاما أو ما أشبه ذلك يطيب له الفضل ; لما بينا ، فإن علفها لا يطيب له ; لأن الأجرة لا يصير [ ص: 207 ] شيء منها مقابلا بالعلف ، فلا يطيب له الفضل ، ولو استأجر دابة ليركبها ليس له أن يركب غيره ، وإن فعل ضمن ، وكذا إذا استأجر ثوبا ليلبسه ليس له أن يلبسه غيره ، وإن فعل ، ضمن ; لأن الناس متفاوتون في الركوب واللبس ، فإن أعطاه غيره فلبسه ذلك اليوم ضمنه إن أصابه شيء ; لأنه غاصب في إلباسه غيره ، وإن لم يصبه شيء فلا أجر له ; لأن المعقود عليه ما يصير مستوفيا بلبسه ، فما يكون مستوفى بلبس غيره لا يكون معقودا عليه ، واستيفاء غير المعقود عليه لا يوجب اليد .

ألا يرى أنه لو استأجر ثوبا بعينه ثم غصب منه ثوبا آخر فلبسه لم يلزمه الأجر ، فكذلك إذا ألبس ذلك الثوب غيره ; لأن تعيين اللابس كتعيين الملبوس ، فإن قيل هو قد تمكن من استيفاء المعقود عليه وذلك لا يكفي لوجوب الأجر عليه كما لو وضعه في بيته ولم يلبسه ، قلنا تمكنه من الاستيفاء باعتبار يده ، فإذا وضعه في بيته فيده عليه معتبرة ; ولهذا لو هلك لم يضمن ، فأما إذا ألبسه غيره فيده عليه معتبرة حكما ، ألا ترى أنه ضامن ، وإن هلك من غير اللبس فإن يد اللابس عليه معتبرة حتى يكون لصاحبه أن يضمن غير اللابس ، ولا يكون إلا بطريق تفويت يده حكما فلهذا لا يلزمه الأجرة وإن سلم ، وإن كان استأجره ليلبس يوما إلى الليل ولم يسم من يلبسه فالعقد فاسد لجهالة المعقود عليه ، فإن اللبس يختلف باختلاف اللابس وباختلاف الملبوس ، وكما أن ترك التعيين في الملبوس عند العقد يفسد العقد فكذلك ترك تعيين اللابس ، وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة ; لأن صاحب الثوب يطالبه بإلباس أرفق الناس في اللبس ، وصيانة الملبوس ، وهو يأبى أن يلبس إلا أحسن الناس في ذلك ، ويحتج كل واحد منهما بمطلق التسمية ، ولا تصح التسمية مع فساد العقد ، وإن اختصما فيه قبل اللبس فسدت الإجارة ، وإن لبسه هو وأعطاه غيره فلبسه إلى الليل فهو جائز ، وعليه الأجر استحسانا ، والقياس : عليه أجر المثل ، وكذلك لو استأجر دابة للركوب ولم يبين من يركبها ، أو للعمل ولم يسم من يعمل عليها ، فعمل عليها إلى الليل فعليه المسمى استحسانا ، وفي القياس : عليه أجر المثل ; لأنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد ، ووجوب المسمى باعتبار صحة التسمية ، ولا تصح التسمية مع فساد العقد ، وجه الاستحسان أن المفسد وهو الجهالة التي تفضي إلى المنازعة قد زال ، وبانعدام العلة المفسدة ينعدم الفساد ، وهذا لأن الجهالة في المعقود عليه ، وعقد الإجارة في حق المعقود عليه كالمضاف ، وإنما يتجدد انعقادها عند الاستيفاء ، ولا جهالة عند ذلك ، ووجوب الأجر عند ذلك أيضا فلهذا أوجبنا المسمى وجعلنا التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء ، ولا ضمان عليه إن ضاع منه ; لأنه غير مخالف سواء لبس بنفسه أو ألبس غيره ، بخلاف الأول فقد عين هناك لبسه عند العقد فيصير مخالفا بإلباس غيره ، وإذا استأجر قميصا ليلبسه يوما إلى الليل فوضعه في منزله حتى جاء الليل فعليه الأجر كاملا ; لأن صاحبه مكنه من استيفاء المعقود عليه بتسليم الثوب إليه ، وما زاد على ذلك ليس في وسعه ، وليس له أن يلبسه بعد ذلك ; لأن العقد انتهى بمضي المدة ، والإذن في اللبس كان بحكم العقد ، ولو استأجر دابة ليركبها أو ثوبا ليلبسه لا يجوز له أن يؤاجر غيره للركوب واللبس لما قلنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية