بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما الخلاف في المكان فنحو أن يستأجر دابة للركوب أو للحمل إلى مكان معلوم فجاوز ذلك المكان ، وحكمه أنه كما جاوز المكان المعلوم دخل المستأجر في ضمانه حتى لو عطب قبل العود إلى المكان المأذون فيه يضمن كل القيمة .

ولو عاد إلى المكان المأذون فيه هل يبرأ عن الضمان ؟ كان أبو حنيفة أولا يقول : يبرأ كالمودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق وهو قول زفر ، وعيسى بن أبان من أصحابنا ، ثم رجع ، وقال : لا يبرأ حتى يسلمها إلى صاحبها سليمة وكذلك العارية بخلاف الوديعة .

وجه قوله الأول أن الشيء أمانة في يده ألا ترى أنه لو هلك في يده قبل الخلاف لا ضمان عليه ، فكانت يده يد المالك ، فالهلاك في يده كالهلاك في يد المالك ، فأشبه الوديعة ; ولهذا لو هلك في يده ثم استحق بعد الهلاك ، وضمنه المستحق يرجع على المؤاجر كالمودع سواء ، بخلاف المستعير فإنه لا يرجع .

( وجه ) قوله الآخر إن يد المستأجر يد نفسه ; لأنه قبض الشيء لمنفعة نفسه فكانت يده يد نفسه لا يد المؤاجر ، وكذا يد المستعير لما قلنا ، وإذا كانت يده يد نفسه فإذا ضمن بالتعدي لا يبرأ من ضمانه إلا برده إلى صاحبه ; لأنه لا تكون الإعادة إلى المكان المأذون فيه ردا إلى يد نائب المالك فلا يبرأ من الضمان ، بخلاف الوديعة ; لأن يد المودع يد المالك لا يد نفسه ألا ترى أنه لا ينتفع الوديعة فكان العود إلى الوفاق ردا إلى يد نائب المالك فكان ردا إلى المالك معنى فهو الفرق .

وأما الرجوع على المؤاجر بالضمان فليس ذلك لكون يده يد المؤاجر ، بل لأنه صار مغرورا من جهته كالمشتري إذا استحق المبيع من يده أنه يرجع على البائع بسبب الغرور ، كذا هذا ، ولو استأجرها ليركبها إلى مكان عينه فركبها إلى مكان آخر يضمن إذا هلكت ، وإن كان الثاني أقرب من الأول ; لأنه صار مخالفا لاختلاف الطرق إلى الأماكن فكان بمنزلة اختلاف الجنس ، ولا أجرة عليه لما قلنا ، ولو ركبها إلى ذلك المكان الذي عينه لكن من طريق آخر ينظر : إن كان الناس يسلكون ذلك الطريق لا يضمن ; لأنه لم يصر مخالفا ، وإن كانوا لا يسلكونه يضمن إذا هلكت لصيرورته مخالفا غاصبا بسلوكه ، وإن لم تهلك ، وبلغ الموضع المعلوم ثم رجع ، وسلم الدابة إلى صاحبها فعليه الأجر ، ولو استأجرها ليركبها أو ليحمل عليها إلى مكان معلوم فذهب بها ، ولم يركبها ، ولم يحمل عليها شيئا فعليه الأجر ; لأنه سلم المنافع إليه بتسليم محلها إلى المكان المعلوم ، فصار كما لو استأجر دارا ليسكنها فسلم المفتاح إليه فلم يسكن حتى مضت المدة أنه يجب الأجرة لما قلنا ، كذا هذا ، ولو أمسك الدابة في الموضع الذي استأجرها ، ولم يذهب بها إلى الموضع الذي استأجرها إليه فإن أمسكها على قدر ما يمسك الناس إلى أن يرتحل فهلك فلا ضمان عليه ; لأن حبس الدابة ذلك القدر مستثنى عادة فكان مأذونا فيه دلالة ، وإن حبس مقدار ما لا يحبس الناس مثله يومين أو ثلاثة فعطب يضمن ; لأنه خالف في المكان بالإمساك الخارج عن العادة فصار غاصبا فيضمن إذا هلك ، ولا أجرة عليه لما قلنا ، وإن لم تهلك فأمسكها في بيته فلا أجر عليه لما مر أن الأجر بمقابلة تسليم الدابة في جميع الطريق ولم يوجد ، بخلاف ما إذا استأجرها عشرة أيام ليركبها فحبسها ، ولم يركبها حتى ردها يوم العاشر أن عليه الأجرة ، ويسع لصاحبها أن يأخذ الكراء ، وإن كان يعلم أنه لم يركبها ; لأن استحقاق الأجرة في الإجارات على الوقت بالتسليم في الوقت ، وقد وجد فتجب الأجرة كما في إجارة الدار ، ونحوها بخلاف الإجارة على المسافة فإن الاستحقاق هناك بالتسليم [ ص: 216 ] في جميع الطريق ، ولم يوجد فلا يجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية