بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( ومنها ) الدباغ للجلود النجسة ، فالدباغ تطهير للجلود كلها إلا جلد الإنسان والخنزير ، كذا ذكر الكرخي ، وقال مالك : إن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ ، لكن يجوز استعماله في الجامد ، لا في المائع ، بأن يجعل جرابا للحبوب دون الزق للماء والسمن والدبس ، وقال عامة أصحاب الحديث : لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه وقال الشافعي كما قلنا إلا في جلد الكلب ; لأنه نجس العين عنده كالخنزير وكذا روي عن الحسن بن زياد واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب } واسم الإهاب يعم الكل إلا فيما قام الدليل على تخصيصه ، ( ولنا ) ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أيما إهاب دبغ فقد طهر }

كالخمر تخلل فتحل وروي أن { النبي صلى الله عليه وسلم مر بفناء قوم فاستسقاهم فقال : هل عندكم ماء ؟ فقالت امرأة : لا يا رسول الله إلا في قربة لي ميتة فقال صلى الله عليه وسلم ألست دبغتيها ؟ فقالت : نعم فقال : دباغها طهورها } ; ولأن نجاسة الميتات لما فيها من الرطوبات والدماء السائلة وأنها تزول بالدباغ فتطهر كالثوب النجس إذا غسل ; ولأن العادة جارية فيما بين المسلمين بلبس جلد الثعلب ، والفنك ، والسمور ونحوها ، في الصلاة وغيرها من غير نكير ، فدل على الطهارة ، ولا حجة لهم في الحديث ; لأن الإهاب في اللغة : اسم لجلد لم يدبغ ، كذا قاله الأصمعي ، والله أعلم ، ثم قول الكرخي : إلا جلد الإنسان [ ص: 86 ] والخنزير ، جواب ظاهر قول أصحابنا .

وروي عن أبي يوسف أن الجلود كلها تطهر بالدباغ لعموم الحديث ، والصحيح أن جلد الخنزير لا يطهر بالدباغ ; لأن نجاسته ليست لما فيه من الدم والرطوبة بل هو نجس العين ، فكان وجود الدباغ - في حقه - والعدم بمنزلة واحدة ، وقيل : إن جلده لا يحتمل الدباغ ; لأن له جلودا مترادفة ، بعضها فوق بعض كما للآدمي .

وأما جلد الإنسان فإن كان يحتمل الدباغ وتندفع رطوبته بالدبغ ينبغي أن يطهر ; لأنه ليس بنجس العين لكن لا يجوز الانتفاع به احتراما له وأما جلد الفيل فذكر في العيون عن محمد أنه لا يطهر بالدباغ .

وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يطهر ; لأنه ليس بنجس العين ، ثم الدباغ على ضربين : حقيقي ، وحكمي ، فالحقيقي : هو أن يدبغ بشيء له قيمة كالقرظ والعفص والسبخة ونحوها ، والحكمي : أن يدبغ بالتشميس والتتريب والإلقاء في الريح ، والنوعان مستويان في سائر الأحكام إلا في حكم واحد ، وهو أنه لو أصابه الماء بعد الدباغ الحقيقي لا يعود نجسا ، وبعد الدباغ الحكمي فيه روايتان .

وقال الشافعي : لا يطهر الجلد إلا بالدباغ الحقيقي ، وأنه غير سديد ; لأن الحكمي في إزالة الرطوبات ، والعصمة عن النتن ، والفساد بمضي الزمان ، مثل الحقيقي ، فلا معنى للفصل بينهما ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية