بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( ومنها ) العصر فيما يحتمل العصر ، وما يقوم مقامه فيما لا يحتمله والجملة فيه أن المحل الذي تنجس إما إن كان شيئا لا يتشرب فيه أجزاء النجس أصلا ، أو كان شيئا يتشرب فيه شيء يسير ، أو كان شيئا يتشرب فيه شيء كثير ، فإن كان مما لا يتشرب فيه شيء أصلا ، كالأواني المتخذة من الحجر والصفر ، والنحاس والخزف العتيق ، ونحو ذلك فطهارته بزوال عين النجاسة ، أو العدد على ما مر ، وإن كان مما يتشرب فيه شيء قليل ، كالبدن والخف والنعل فكذلك ; لأن الماء يستخرج ذلك القليل فيحكم بطهارته ، وإن كان مما يتشرب فيه كثير ، فإن كان مما يمكن عصره كالثياب ، فإن كانت النجاسة مرئية فطهارته بالغسل والعصر إلى أن تزول العين ، وإن كانت غير مرئية فطهارته بالغسل ثلاثا ، والعصر في كل مرة ; لأن الماء لا يستخرج الكثير إلا بواسطة العصر ، ولا يتم الغسل بدونه .

وروي عن محمد أنه يكتفي بالعصر في المرة الأخيرة ، ويستوي الجواب عندنا بين بول الصبي والصبية .

وقال الشافعي : بول الصبي يطهر بالنضح من غير عصر ، ( واحتج ) بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ينضح بول الصبي ، ويغسل بول الجارية } .

( ولنا ) ما روينا من حديث عمار من غير فصل بين بول وبول ، وما رواه غريب فلا يقبل ، خصوصا إذا خالف المشهور ، وإن كان مما لا يمكن عصره ، كالحصير المتخذ من البوري ونحوه ، أي ما لا ينعصر بالعصر إن علم أنه لم يتشرب فيه ، بل أصاب ظاهره يطهر بإزالة العين ، أو بالغسل ثلاث مرات من غير عصر ، فأما إذا علم أنه تشرب فيه فقد قال أبو يوسف : ينقع في الماء ثلاث مرات ، ويجفف في كل مرة فيحكم بطهارته .

وقال محمد : لا يطهر أبدا ، وعلى هذا الخلاف : الخزف الجديد إذا تشرب فيه النجس ، والجلد إذا دبغ بالدهن النجس ، والحنطة إذا تشرب فيها النجس وانتفخت أنها لا تطهر أبدا عند محمد ، وعند أبي يوسف تنقع في الماء ثلاث مرات ، وتجفف في كل مرة وكذا السكين إذا موه بماء نجس ، واللحم إذا طبخ بماء نجس فعند أبي يوسف : يموه السكين ، ويطبخ اللحم بالطاهر ثلاث مرات ، ويجفف في كل مرة ، وعند محمد : لا يطهر أبدا وجه قول محمد أن النجاسة إذا دخلت في الباطن يتعذر استخراجها إلا بالعصر ، والعصر متعذر وأبو يوسف يقول : إن تعذر العصر فالتجفيف ممكن ، فيقام التجفيف مقام العصر [ ص: 89 ] دفعا للحرج وما قاله محمد أقيس ، وما قاله أبو يوسف أوسع ، ولو أن الأرض أصابتها نجاسة رطبة ، فإن كانت الأرض رخوة يصب عليها الماء ، حتى يتسفل فيها فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة ، وتسفلت المياه يحكم بطهارتها ، ولا يعتبر فيها العدد ، وإنما هو على اجتهاده ، وما في غالب ظنه أنها طهرت ، ويقوم التسفل في الأرض مقام العصر فيما يحتمل العصر ، وعلى قياس ظاهر الرواية يصب الماء عليها ثلاث مرات ، ويتسفل في كل مرة ، وإن كانت الأرض صلبة فإن كانت صعودا يحفر في أسفلها حفيرة ، ويصب الماء عليها ثلاث مرات ، ويزال عنها إلى الحفيرة ، ثم تكبر الحفيرة ، وإن كانت مستوية بحيث لا يزول الماء عنها لا تغسل ، لعدم الفائدة في الغسل .

وقال الشافعي : إذا كوثرت بالماء طهرت ، وهذا فاسد ; لأن الماء النجس باق حقيقة ، ولكن ينبغي أن تقلب فيجعل أعلاها أسفلها ، وأسفلها أعلاها ليصير التراب الطاهر وجه الأرض ، هكذا روي أن { أعرابيا بال في المسجد ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفر موضع } بوله ، فدل أن الطريق ما قلنا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية