بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) بيان حد السكر الذي يتعلق به وجوب الحد فقد اختلف في حده ، قال [ ص: 118 ] أبو حنيفة رضي الله عنه السكران الذي يحد هو الذي لا يعقل قليلا ولا كثيرا ، ولا يعقل الأرض من السماء والرجل من المرأة ، وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى ومحمد رحمه الله السكران هو الذي يغلب على كلامه الهذيان .

وروي عن أبي يوسف أنه يمتحن ب { قل يا أيها الكافرون } فيستقرأ ، فإن لم يقدر على قراءتها فهو سكران ، لما روي أن رجلا صنع طعاما فدعا سيدنا أبا بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا عليا وسيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم فأكلوا وسقاهم خمرا وكان قبل تحريم الخمر فحضرتهم صلاة المغرب فأمهم واحد منهم فقرأ { قل يا أيها الكافرون } على طرح { لا أعبد ما تعبدون } فنزل قوله - تبارك وتعالى - { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } .

وهذا الامتحان غير سديد ; لأن من السكارى من لم يتعلم هذه السورة من القرآن أصلا ، ومن تعلم فقد يتعذر عليه قراءتها في حالة الصحو خصوصا من لا اعتناء له بأمر القرآن فكيف في حالة السكر ؟ وقال الشافعي رحمه الله : إذا شرب حتى ظهر أثره في مشيه وأطرافه وحركاته ، فهو سكران ، وهذا أيضا غير سديد ; لأن هذا أمر لا ثبات له ; لأنه يختلف باختلاف أحوال الناس ، منهم من يظهر ذلك منه بأدنى شيء ، ومنهم من لا يظهر فيه وإن بلغ به السكر غايته .

( وجه ) قولهما : شهادة العرف والعادة فإن السكران في متعارف الناس اسم لمن هذى وإليه أشار سيدنا علي رضي الله عنه بقوله : إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحد المفتري ثمانون وأبو حنيفة عليه الرحمة يسلم ذلك في الجملة ، فيقول : أصل السكر يعرف بذلك لكنه اعتبر في باب الحدود ما هو الغاية في الباب احتيالا للدرء المأمور به بقوله صلى الله عليه وسلم { ادرءوا الحدود ما استطعتم } ولا يعرف بلوغ السكر غايته إلا بما ذكر ، والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية