بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) الذي يرجع إلى المولى فيه فهو أن لا يكون من التصرفات الضارة بالمولى عليه لقوله عليه الصلاة والسلام { : لا ضرر ، ولا ضرار في الإسلام } ، وقال عليه الصلاة والسلام { : من لم يرحم صغيرنا فليس منا } ، والإضرار بالصغير ليس من المرحمة في شيء فليس له أن يهب مال الصغير من غيره بغير عوض ; لأنه إزالة ملكه من غير عوض فكان ضررا محضا ، وكذا ليس له أن يهب بعوض عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وعند محمد له ذلك .

( وجه ) قوله أن الهبة بعوض معاوضة المال بالمال فكان في معنى البيع فملكها كما يملك البيع .

( ولهما ) أنها هبة ابتداء بدليل أن الملك فيها يقف على القبض ، وذلك من أحكام الهبة ، وإنما تصير معاوضة في الانتهاء ، وهو لا يملك الهبة فلم تنعقد هبته فلا يتصور أن تصير معاوضة ، بخلاف البيع ; لأنه معاوضة ابتداء وانتهاء ، وهو يملك المعاوضة ، وليس له أن يتصدق بماله ، ولا أن يوصي به ; لأن التصدق والوصية إزالة الملك من غير عوض مالي ، فكان ضررا فلا يملكه ، وليس له أن يطلق امرأته ; لأن الطلاق من التصرفات الضارة المحضة ، وليس له أن يعتق عبده سواء كان بعوض أو بغير عوض ، أما بغير عوض ; فلأنه ضرر محض ، وكذا بعوض ; لأنه لا يقابله العوض للحال ; لأن العتق معلق بنفس القبول ، وإذا أعتق بنفس القبول يبقى الدين في ذمة المفلس ، وقد يحصل ، وقد لا يحصل فكان الإعتاق ضررا محضا للحال ، وكذا ليس له أن يقرض ماله ; لأن القرض إزالة الملك من غير عوض للحال ، وهو معنى قولهم : القرض تبرع ، وهو لا يملك سائر التبرعات ، كذا هذا ، بخلاف القاضي فإنه يقرض مال اليتيم .

( ووجه ) الفرق أن الإقراض من القاضي من باب حفظ الدين ; لأن توى الدين بالإفلاس أو بالإنكار ، والظاهر أن القاضي يختار أملى الناس ، وأوثقهم ، وله ولاية التفحص عن أحوالهم فيختار من لا يتحقق إفلاسه ظاهرا وغالبا ، وكذا القاضي يقضي بعلمه فلا يتحقق التوى بالإنكار ، وليس لغير القاضي هذه الولاية فبقي الإقراض منه إزالة الملك من غير أن يقابله عوض للحال فكان ضررا فلا يملكه ، وله أن يدين ماله من غيره ، وصورة الاستدانة أن يطلب إنسان من غير الأب أو الوصي أن يبيعه شيئا من أموال الصغير بمثل قيمته حتى يجعل أصل الشيء ملكه ، وثمن المبيع دينا عليه ليرده ، فإن باعه منه بزيادة على قيمته فهو عينه ، وإنما ملك الإدانة ، ولم يملك القرض ; لأن الإدانة بيع ماله بمثل قيمته ، وليس له أن يزوج عبده ; لأنه يتعلق المهر برقبته ، وفيه ضرر ، وليس له أن يبيع ماله بأقل من قيمته قدر ما لا يتغابن الناس فيه عادة ، ولو باع لا ينفذ بيعه ; لأنه ضرر في حقه ، وكذا ليس له أن يؤاجر نفسه أو ماله بأقل من أجرة المثل قدر ما لا يتغابن الناس فيه عادة ، وليس له أن يشتري بماله شيئا بأكثر من قيمته قدر ما لا يتغابن الناس فيه عادة لما قلنا ، ولو اشترى ينفذ عليه ، ويكون المشترى له ; لأن الشراء وجد نفاذا على المشتري ، وله أن يقبل الهبة والصدقة والوصية ; لأن ذلك نفع محض فيملكه الولي ، وقال عليه الصلاة والسلام { : خير الناس من ينفع الناس } ، وهذا يجري مجرى الحث على النفع ، والحث على النفع ممن لا يملك النفع عبث ، وله أن يزوج أمته ; لأنه نفع ، وله أن يبيع ماله بأكثر من قيمته ويشتري له شيئا بأقل من قيمته لما قلنا ، وله أن يبيعه بمثل قيمته ، وبأقل من قيمته مقدار ما يتغابن الناس فيه عادة ، وله أن يشتري له شيئا بمثل قيمته وبأكثر من قيمته قدر ما يتغابن الناس فيه عادة ، وكذا له أن يؤاجر نفسه وماله بأكثر من أجر مثله أو بأجر مثله أو بأقل منه قدر ما يتغابن الناس [ ص: 154 ] فيه عادة ، وكذا له أن يستأجر له شيئا بأقل من أجر المثل أو بأجر المثل أو بأكثر منه قدر ما يتغابن الناس فيه عادة ، ولو آجر نفسه أو ماله ثم بلغ الصبي في المدة فله الخيار في إجارة النفس إن شاء مضى عليها ، وإن شاء أبطلها ، ولا خيار له في إجارة المال .

( ووجه ) الفرق أن إجارة مال الصغير تصرف في ماله على وجه النظر فيقوم الأب فيه مقامه ، فلا يثبت له خيار الإبطال بالبلوغ ، فأما إجارة نفسه فتصرف على نفسه بالأضرار ، وكان ينبغي أن لا يملكه الأب إلا أنه ملكها من حيث إنها نوع رياضة ، وتهذيب للصغير ، وتأديب له ، والأب يلي تأديب الصغير فوليها على أنها تأديب فإذا بلغ فقد انقطعت ولاية التأديب ، وهو الفرق ، وله أن يسافر بماله وله أن يدفع ماله مضاربة ، وله أن يبضع ، وله أن يوكل بالبيع والشراء والإجارة والاستئجار ; لأن هذه الأشياء من توابع التجارة ، فكل من ملك التجارة يملك ما هو من توابعها ، ولهذا ملكها المأذون ، وله أن يعير ماله استحسانا والقياس أن لا يجوز .

( وجه ) القياس أن الإعارة تمليك المنفعة بغير عوض فكان ضررا .

( وجه ) الاستحسان أن هذا من توابع التجارة ، وضروراتها فتملك بملك التجارة ، ولهذا ملكها المأذون ، وله أن يودع ماله ; لأن الإيداع من ضرورات التجارة ، وله أن يأذن له بالتجارة عندنا إذا كان يعقل البيع ، والشراء ; لأن الإذن بالتجارة دون التجارة فإذا ملك التجارة بنفسه فلأن يملك الإذن بالتجارة أولى ، وله أن يكاتب عبده ; لأن المكاتبة عقد معاوضة فكان في معنى البيع ، وله أن يرهن ماله بدينه ; لأن الرهن من توابع التجارة لأن التاجر يحتاج إليه ، ولأنه قضاء الدين ، وهو يملك قضاء دينه من ماله فيملك الرهن بدينه أيضا ، وله أن يرهن ماله بدين نفسه أيضا ; لأن عين المرهون تحت يد المرتهن إلا أنه إذا هلك يضمن مقدار ما صار مؤديا من ذلك دين نفسه ، وله أن يجعل ماله مضاربة عند نفسه ، وينبغي أن يشهد على ذلك في الابتداء ، ولو لم يشهد يحل له الربح فيما بينه ، وبين الله - تعالى - ، ولكن القاضي لا يصدقه ، وكذلك إذا شارك ورأس ماله أقل من مال الصغير ، فإن أشهد فالربح على ما شرط ، وإن لم يشهد يحل فيما بينه وبين الله - تعالى - ، ولكن القاضي لا يصدقه ، ويجعل الربح على قدر رأس مالهما ، وما عرفت من الجواب في الأب فهو الجواب في وصيه حال عدمه ، وفي الجد ووصيه حال عدمه إلا أن بين الأب ووصيه ، وبين الجد ووصيه فرقا من وجوه مخصوصة .

( منها ) : أن الأب أو الجد إذا اشترى مال الصغير لنفسه أو باع مال نفسه من الصغير بمثل قيمته أو بأقل جاز ، ولو فعل الوصي ذلك لا يجوز عند محمد أصلا ، وعند أبي حنيفة ، وأبي يوسف إن كان خيرا لليتيم جاز ، وإلا فلا .

( ومنها ) أن لهما ولاية الاقتصاص لأجل الصغير في النفس وما دونها ، وللوصي ولاية الاقتصاص فيما دون النفس ، وليس له ولاية الاقتصاص في النفس .

( ومنها ) أن له ولاية الصلح في النفس وما دونها على قدر الدية من غير حط بلا خلاف ، وليس لهما ولاية العفو ، وفي جواز الصلح من الوصي روايتان ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك في كتاب الصلح .

التالي السابق


الخدمات العلمية