بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) أول وقت العشاء فحين يغيب الشفق بلا خلاف بين أصحابنا ، لما روي في خبر أبي هريرة رضي الله عنه وأول وقت العشاء حين يغيب الشفق واختلفوا في تفسير الشفق ، فعند أبي حنيفة هو البياض ، وهو مذهب أبي بكر وعمر ومعاذ وعائشة رضي الله عنهم ، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي هو الحمرة ، وهو قول عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وهو رواية أسد بن عمرو عن أبي حنيفة .

( وجه ) قولهم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء بعد مضي ثلث الليل } ، فلو كان الشفق هو البياض لما كان مؤخرا لها ، بل كان مصليا في أول الوقت ; لأن البياض يبقى إلى ثلث الليل خصوصا في الصيف ولأبي حنيفة النص والاستدلال .

( أما ) النص فقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } ، جعل الغسق غاية لوقت المغرب ، ولا غسق ما بقي النور المعترض .

وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال : آخر وقت المغرب ما لم يسقط نور الشفق وبياضه ، والمعترض نوره وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإن آخر وقت المغرب حين يسود الأفق ، وإنما يسود بإخفائها بالظلام .

( وأما ) الاستدلال فمن وجهين : لغوي ، وفقهي ، أما اللغوي فهو أن الشفق اسم لما رق ، يقال : ثوب شفيق أي رقيق ، إما من رقة النسج وإما لحدوث رقة فيه من طول اللبس ، ومنه الشفقة وهي رقة القلب من الخوف أو المحبة ، ورقة نور الشمس باقية ما بقي البياض .

وقيل الشفق اسم لرديء الشيء وباقيه ، والبياض باقي آثار الشمس وأما الفقهي فهو أن صلاتين تؤديان في أثر الشمس وهما المغرب مع الفجر ، وصلاتين تؤديان في وضح النهار وهما الظهر والعصر ، فيجب أن يؤدي صلاتين في غسق الليل بحيث لم يبق أثر من آثار الشمس وهما العشاء والوتر ، وبعد غيبوبة البياض لا يبقى أثر للشمس ، ولا حجة لهم في الحديث ; لأن البياض يغيب قبل مضي ثلث الليل غالبا وأما آخر وقت العشاء فحين يطلع الفجر الصادق عندنا ، وعند الشافعي قولان : في قول حين يمضي ثلث الليل ; لأن جبريل عليه السلام صلى في المرة الثانية بعد مضي ثلث الليل ، وكان ذلك بيانا لآخر الوقت ، وفي قول يؤخر إلى آخر نصف الليل بعذر السفر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ليلة إلى النصف ثم قال : هو لنا بعذر السفر ( ولنا ) ما روى أبو هريرة وأول وقت العشاء حين يغيب الشفق ، وآخره حين يطلع الفجر .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت أخرى } وقت عدم دخول وقت الصلاة إلى غاية خروج وقت صلاة أخرى ، فلو لم يثبت الدخول عند الخروج لم يتوقف ; ولأن الوتر من توابع العشاء ويؤدى في وقتها ، وأفضل وقتها السحر دل أن السحر آخر وقت العشاء ; ولأن أثر السفر في قصر الصلاة لا في زيادة الوقت ، وإمامة جبريل عليه السلام كان تعليما لآخر الوقت المستحب ، ونحن نقول : إن ذلك ثلث الليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية