بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( ومنها ) القبض في بيع المشتري المنقول فلا يصح بيعه قبل القبض ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع ما لم يقبض } ، والنهي يوجب فساد المنهي ; ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه ; لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع الأول فينفسخ الثاني ; لأنه بناه على الأول ، وقد { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر } ، وسواء باعه من غير بائعه ، أو من بائعه ; لأن النهي مطلق لا يوجب الفصل بين البيع من غير بائعه وبين البيع من بائعه ، وكذا معنى الغرر لا يفصل بينهما فلا يصح الثاني ، والأول على حاله .

ولا يجوز إشراكه ، وتوليته ; لأن كل ذلك بيع ، ولو قبض نصف المبيع دون النصف فأشرك رجلا لم يجز فيما لم يقبض ، وجاز فيما قبض ; لأن الإشراك نوع بيع ، والمبيع منقول فلم يكن غير المقبوض محلا له شرعا فلم يصح في غير المقبوض ، وصح في قدر المقبوض ، وله الخيار ; لتفرق الصفقة عليه ، ولا تجوز إجارته ; لأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض ، وملك المنفعة تابع لملك العين ، ولا يجوز فيه تمليك العين فلا يجوز تمليك المنفعة ; ولأن الإجارة عقد يحتمل الفسخ فيتمكن فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه ، ولأن ما روينا من النهي يتناول الإجارة ; لأنها نوع بيع ، وهو بيع المنفعة .

ويجوز إعتاقه بعوض ، وغير عوض ، وكذا تدبيره ، واستيلاده بأن كانت أمة فأقر أنها كانت ولدت له ; لأن جواز هذه التصرفات يعتمد قيام ملك الرقبة ، وقد وجد بخلاف البيع فإن صحته تفتقر إلى ملك الرقبة واليد جميعا ; لافتقاره إلى التسليم ، وكذا الإجارة بخلاف الإعتاق ، والتدبير ، ولأن المانع هو القبض ، وبهذه التصرفات يصير قابضا على ما نذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى - ، ولأن الفساد لتمكن الغرر ، وهو غرر انفساخ العقد بهلاك المعقود عليه ; لما نذكره ، وهذه التصرفات مما لا يحتمل الانفساخ فلم يوجد فلزم الجواز بدليله ، وهل تجوز كتابته ؟ لا رواية فيه عن أصحابنا فاحتمل أن يقال : لا يجوز قياسا على البيع ; لأن كل ، واحد منهما مما يحتمل الفسخ ، والإقالة ، وجائز أن يقال : يجوز فرقا بينها ، وبين البيع ; لأنها أوسع إضرارا من البيع .

وروي عن أبي يوسف إذا كاتبه المشتري قبل القبض فللبائع أن يبطله فإن لم يبطله حتى نقد المشتري الثمن جازت الكتابة ذكرها في العيون ، ولو وهبه من البائع فإن لم يقبله لم تصح الهبة والبيع على حاله ; لأن الهبة لا تصح بدون القبول فإن قبله البائع لم تجز الهبة ; لأنها تمليك المبيع قبل القبض ، وأنه لا يجوز كالبيع ، وانفسخ البيع بينهما ، ويكون إقالة للبيع فرق بين الهبة من البائع ، وبين البيع منه حيث جعل الهبة منه إقالة دون البيع منه .

( ووجه ) الفرق : أن بين الهبة ، والإقالة مقاربة فإن كل واحد منهما يستعمل في إلحاق ما سلف بالعدم يقال : وهبت منك جريمتك كما يقال : أقلت عثرتك ، أو جعلت ذلك كالعدم في حق المؤاخذة به ، ألا ترى أنه يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر ؟ فأمكن جعل الهبة مجازا عن الإقالة عند تعذر العمل بالحقيقة ، بخلاف البيع فإنه لا مقاربة بينه وبين الإقالة ; فتعذر جعله مجازا عنها فوقع لغوا ، وكذلك لو تصدق به عليه فهو على التفصيل الذي ذكرنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية