بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( ومنها ) - التحريمة وهي تكبيرة الافتتاح وإنها شرط صحة الشروع في الصلاة عند عامة العلماء .

وقال ابن علية وأبو بكر الأصم : أنها ليست بشرط ويصح الشروع في الصلاة بمجرد النية من غير تكبير ، فزعما أن الصلاة أفعال وليست بأذكار حتى أنكر افتراض القراءة في الصلاة على ما ذكرنا فيما تقدم .

( ولنا ) قول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه ، ويستقبل القبلة ، ويقول : الله أكبر } ، نفى قبول الصلاة بدون التكبير ، فدل على كونه شرطا ، لكن إنما يؤخذ هذا الشرط على القادر عن العاجز ، فلذلك جازت صلاة الأخرس ; ولأن الأفعال أكثر من الأذكار فالقادر على الأفعال يكون قادرا على الأكثر ، وللأكثر حكم الكل ، فكأنه قدر على الأذكار تقديرا ، ثم لا بد من بيان صفة الذكر الذي يصير به شارعا في الصلاة

وقد اختلف فيه فقال أبو حنيفة ومحمد : يصح الشروع في الصلاة بكل ذكر هو ثناء خالص لله - تعالى - يراد به تعظيمه لا غير ، مثل أن يقول : الله أكبر ، الله الأكبر ، الله الكبير ، الله أجل ، الله أعظم ، أو يقول : الحمد لله أو سبحان الله أو لا إله إلا الله ، وكذلك كل اسم ذكر مع الصفة نحو أن يقول : الرحمن أعظم ، الرحيم أجل ، سواء كان يحسن التكبير أو لا يحسن ، وهو قول إبراهيم النخعي .

وقال أبو يوسف : لا يصير شارعا إلا بألفاظ مشتقة من التكبير ، وهي ثلاثة : الله أكبر ، الله الأكبر ، الله الكبير .

إلا إذا كان لا يحسن التكبير ، أو لا يعلم أن الشروع بالتكبير .

وقال الشافعي : لا يصير شارعا إلا بلفظين : الله أكبر ، الله الأكبر وقال مالك : لا يصير شارعا إلا بلفظ واحد ، وهو الله أكبر ، واحتج بما روينا من الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه ، ويستقبل القبلة ، ويقول : الله أكبر } ، نفى القبول بدون هذه اللفظة فيجب مراعاة عين ما ورد به النص دون التعليل ، إذ التعليل للتعدية لا لإبطال حكم النص كما في الأذان ، ولهذا لا يقام السجود على الخد والذقن مقام السجود على الجبهة وبهذا يحتج الشافعي إلا أنه يقول : في الأكبر أتى بالمشروع وزيادة شيء ، فلم تكن الزيادة مانعة ، كما إذا قال : الله أكبر كبيرا ، فأما العدول عما ورد الشرع به فغير جائز وأبو يوسف يحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم : وتحريمها التكبير ، والتكبير حاصل بهذه الألفاظ الثلاثة ، فإن أكبر هو الكبير ، قال الله تعالى : { وهو أهون عليه } أي هين عليه عند بعضهم ، إذ ليس شيء أهون على الله من شيء ، بل الأشياء كلها بالنسبة إلى دخولها تحت قدرته كشيء واحد ، والتكبير مشتق من الكبرياء ، والكبرياء تنبئ عن العظمة والقدم ، يقال : هذا أكبر القوم أي أعظمهم منزلة وأشرفهم قدرا ، ويقال : هو أكبر من فلان أي أقدم منه فلا يمكن إقامة غيره من الألفاظ مقامه لانعدام المساواة في المعنى ، إلا أنا حكمنا بالجواز إذا لم يحسن ، أو لا يعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير للضرورة وأبو حنيفة ومحمد احتجا بقوله تعالى : { وذكر اسم ربه فصلى } ، والمراد منه ذكر اسم الرب لافتتاح الصلاة لأنه عقب الصلاة الذكر بحرف يوجب التعقيب بلا فصل ، والذكر الذي تتعقبه الصلاة بلا فصل هو تكبيرة الافتتاح ، فقد شرع الدخول في الصلاة بمطلق الذكر فلا يجوز التقييد باللفظ المشتق من الكبرياء بأخبار الآحاد ، وبه تبين أن الحكم تعلق بتلك الألفاظ من حيث هي مطلق الذكر لا من حيث هي ذكر بلفظ خاص ، وأن الحديث معلول به لأنا إذا عللناه بما ذكر بقي معمولا به من حيث اشتراط مطلق الذكر ، ولو لم نعلل احتجنا إلى رده أصلا لمخالفته الكتاب ، فإذا ترك التعليل هو المؤدي إلى إبطال حكم النص دون التعليل ، على أن التكبير يذكر ويراد به التعظيم ، قال تعالى : { وكبره تكبيرا } ، أي عظمه تعظيما .

وقال تعالى : { فلما رأينه أكبرنه } ، أي عظمنه ، وقال تعالى : { وربك فكبر } أي فعظم ، فكان الحديث واردا بالتعظيم ، وبأي اسم ذكر فقد عظم الله - تعالى - ، وكذا من سبح الله - تعالى - فقد عظمه ونزهه عما لا يليق به من صفات النقص وسمات الحدث ، فصار واصفا له بالعظمة والقدم ، وكذا إذا هلل ; لأنه إذا وصفه بالتفرد والألوهية فقد وصفه بالعظمة والقدم لاستحالة ثبوت الإلهية دونهما ، وإنما لم يقم السجود على الخد مقام السجود على الجبهة للتفاوت في التعظيم كما في الشاهد ، بخلاف الأذان ; لأن المقصود منه هو الإعلام ، وأنه لا يحصل إلا بهذه الكلمات المشهورة المتعارفة فيما بين الناس ، حتى لو حصل الإعلام بغير هذه [ ص: 131 ] الألفاظ يجوز ، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة ، وكذا روى أبو يوسف في الأمالي ، والحاكم في المنتقى ، والدليل على أن قوله : الله أكبر ، أو الرحمن أكبر سواء قوله تعالى : { أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء } ، ولهذا يجوز الذبح باسم الرحمن ، أو باسم الرحيم ، فكذا هذا ، والذي يحقق مذهبهما ما روي عن عبد الرحمن السلمي أن الأنبياء - صلوات الله عليهم - كانوا يفتتحون الصلاة بلا إله إلا الله ، ولنا بهم أسوة هذا إذا ذكر الاسم والصفة ، فأما إذا ذكر الاسم لا غير بأن قال : " الله " لا يصير شارعا عند محمد ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يصير شارعا ، وكذا روى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لمحمد أن النص ورد بالاسم والصفة فلا يجوز الاكتفاء بمجرد الاسم ولأبي حنيفة أن النص معلول بمعنى التعظيم ، وأنه يحصل بالاسم المجرد ، والدليل عليه أنه يصير شارعا بقوله : " لا إله إلا الله " ، والشروع إنما يحصل بقوله : " الله " لا بالنفي ، ولو قال : " اللهم اغفر لي " لا يصير شارعا بالإجماع ; لأنه لم يخلص تعظيما لله - تعالى - بل هو للمسألة والدعاء دون خالص الثناء والتعظيم .

ولو قال : " اللهم " اختلف المشايخ فيه لاختلاف أهل اللغة في معناه ، قال بعضهم : يصير شارعا ; لأن الميم في قوله اللهم بدل عن النداء ، كأنه قال : " يا الله " .

وقال بعضهم : لا يصير شارعا ; لأن الميم في قوله : " اللهم " بمعنى السؤال ، معناه اللهم آمنا بخير ، أي أردنا به فيكون دعاء لا ثناء خالصا كقوله : اللهم اغفر لي ولو افتتح الصلاة بالفارسية بأن قال : خداي بزر كنر أو خداي بزرك - يصير شارعا عند أبي حنيفة ، وعندهما لا يصير شارعا إلا إذا كان لا يحسن العربية .

ولو ذبح وسمى بالفارسية يجوز بالإجماع ، فأبو يوسف مر على أصله في مراعاة المنصوص عليه ، والمنصوص عليه لفظة التكبير بقوله صلى الله عليه وسلم : { وتحريمها التكبير } ، وهي لا تحصل بالفارسية ، وفي باب الذبح المنصوص عليه هو مطلق الذكر بقوله : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } وذا يحصل بالفارسية ، ومحمد فرق فجوز النقل إلى لفظ آخر من العربية ، ولم يجوز النقل إلى الفارسية فقال : العربية لبلاغتها ووجازتها تدل على معان لا تدل عليها الفارسية ، فتحتمل الخلل في المعنى عند النقل منها إلى الفارسية ، وكذا للعربية من الفضيلة ما ليس لسائر الألسنة ، ولهذا كان الدعاء بالعربية أقرب إلى الإجابة ، ولذلك خص الله - تعالى - أهل كرامته في الجنة بالتكلم بهذه اللغة ; فلا يقع غيرها من الألسنة موقع كلام العرب ، إلا أنه إذا لم يحسن جاز لمكان العذر وأبو حنيفة اعتمد كتاب الله - تعالى - في اعتبار مطلق الذكر ، واعتبر معنى التعظيم ، وكل ذلك حاصل بالفارسية ثم شرط صحة التكبير أن يوجد في حالة القيام في حق القادر على القيام ، سواء كان إماما أو منفردا أو مقتديا ، حتى لو كبر قاعدا ثم قام لا يصير شارعا ، ولو وجد الإمام في الركوع أو السجود أو القعود ينبغي أن يكبر قائما ثم يتبعه في الركن الذي هو فيه ، ولو كبر للافتتاح في الركن الذي هو فيه لا يصير شارعا لعدم التكبير قائما مع القدرة عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية