بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
فأما إذا قوبل أبدال من جنسين مختلفين بأبدال من جنسين مختلفين فإن كان من غير أموال الربا فلا شك أنه يجوز ، وتقسم الأبدال من أحد الجانبين بالأبدال من الجانب الآخر قسمة توزيع وإشاعة من حيث التقويم ، وإن كان من أموال الربا فيجوز أيضا عند أصحابنا الثلاثة ، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس فيقسم قسمة تصحيح لا قسمة إشاعة وتوزيع ، وعند زفر والشافعي لا يجوز ، ويقسم قسمة توزيع وإشاعة من حيث القيمة كما في غير أموال الربا ، وبيان ذلك في مسائل : إذا باع كر حنطة وكر شعير بكري حنطة وكري شعير جاز عند علمائنا الثلاثة ، وتصرف الحنطة إلى الشعير ، والشعير إلى الحنطة ، وعندهما لا يجوز وكذلك إذا باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين يصرف الدرهم إلى الدينارين ، والدينار إلى الدرهمين .

( وجه ) قول زفر والشافعي أن هذا بيع ربا فلا يجوز كبيع الدرهم بالدرهمين ، والدينار بالدينارين ، ودلالة الوصف أنه قابل الجملة بالجملة مطلقا ، ومطلق مقابلة الجملة بالجملة يقتضي انقسام كل بدل من أحد الجانبين بجميع الأبدال من الجانب الآخر على سبيل الشيوع من حيث القيمة إذا كانت الأبدال مختلفة القيم ، استدلالا بسائر البياعات في غير أموال الربا ، فإنه إذا باع عبدا وجارية بفرس وثوب وقيمتهما مختلفة يقسم العبد على قيمة الفرس والثوب ، وكذا الجارية ، حتى لو وجد بواحد من الجملة عيبا يرده بحصته من البدلين ، وكذا لو استحق واحد منهما يرده بحصته من البدلين على البائع ، وكذا لو كان أحد البدلين دارا فالشفيع يأخذها بحصتها من البدلين ، فكان التقسيم على الوجه الذي قلنا هو الموجب الأصلي في البياعات كلها ، والانقسام على هذا الوجه في أموال الربا يحقق الربا ; لأنه يصير بائعا كر حنطة وكري شعير بكري شعير وبكر حنطة ، فيتحقق الربا ، على أنه إن لم يتحقق الربا ففيه احتمال الربا ، وأنه مفسد للعقد كبيع الصبرة بالصبرة مجازفة .

( ولنا ) عمومات البيع من غير فصل ، فمن ادعى التخصيص فعليه الدليل ، ولأن المتعاقدين أطلقا مقابلة الجملة بالجملة ، والمطلق يتعرض للذات لا للصفات والجهات فلا يكون مقابلة الجنس بالجنس عينا ، ولا مقابلة الجنس بخلاف الجنس عينا ، فلا يتحقق الربا ; لأنه اسم لفضل مال في مقابلة الجنس بالجنس عينا ، ولم يوجد ، أو نقول : مطلق المقابلة تحتمل مقابلة الجنس بالجنس على سبيل الشيوع من حيث القيمة كما قلتم ، وتحتمل مقابلة الجنس بخلاف الجنس ; لأن كل ذلك مقابلة الجملة بالجملة ، إلا أنا لو حملناه على الأول يفسد العقد ، ولو حملناه على الثاني لصح ، فالحمل على ما فيه الصحة أولى وقوله : موجب البيع المطلق المشتمل على أبدال من الجانبين انقسام كل بدل من أحد الجانبين على جميع الأبدال من الجانب الآخر على الشيوع من حيث التقويم قلنا : ممنوع ; لأن هذا موجب العقد المطلق في موضع في مسائل البياعات في غير أموال الربا ما ثبت الانقسام موجبا له ، بل بحكم المعاوضة والمساواة في الأبدال لأنهما لما أطلقا البيع وهو يشتمل على أبدال من الجانبين من غير تعيين مقابلة البعض بالبعض ، وليس البعض بأولى من البعض في التعيين فلزم القول بالإشاعة والتقسيم من حيث القيمة حكما للمعاوضة والمساواة ، وعند تحقق الضرورة وهي ضرورة الرد بالعيب بالإشاعة ، والرجوع عند الاستحقاق ونحو ذلك ، فلا يثبت الانقسام عند القيمة قبل تحقق الضرورة على [ ص: 192 ] ما عرف .

وقوله : فيه احتمال الربا ، قلنا : احتمال الربا ههنا يوجب فساد العقد عند مقابلة الجنس بالجنس عينا ، كما في بيع الصبرة بالصبرة لا على الإطلاق ; لأن عند مقابلة الجنس بالجنس يلزم رعاية المماثلة المشروطة ، ولم توجد ههنا فلا توجب الفساد وعلى هذا إذا باع دينارا ودرهمين بدرهمين ودينارين أنه يجوز عندنا ، ويكون الدينار بالدرهمين ، والدرهمان بالدينارين وكذا إذا باع درهمين ودينارا بدينارين ودرهم يجوز عندنا بأن يجعل الدرهمان بالدينارين ، والدينار بالدرهم وكذا إذا باع عشرة دراهم بخمسة دراهم ودينار أنه جائز عندنا ، وتكون الخمسة بمقابلة الخمسة ، والخمسة الأخرى بمقابلة الدينار وكذلك إذا باع أحد عشر درهما بعشرة دراهم ودينار جاز عندنا ، وكانت العشرة بمثلها ، ودينار بدرهم وكذلك قال أبو حنيفة : عليه الرحمة إنه إذا باع مائة درهم ودينار بألف درهم يجوز ولا بأس به ، وتكون المائة بمقابلة المائة ، والتسعمائة بمقابلة الدينار ، فلا يتحقق الربا ، وكذا روي عن محمد أنه قال : إذا باع الدراهم بالدراهم ، وفي أحدهما فضل من حيث الوزن ، وفي الجانب الذي لا فضل فيه فلوس فهو جائز في الحكم ، ولكني أكرهه ، فقيل : كيف تجده في قلبك ؟ قال : أجده مثل الجبل والحاصل أنه ينظر إلى ما يقابل الزيادة من حيث الوزن من خلاف الجنس ، إن بلغت قيمته قيمة الزيادة ، أو كانت أقل منها مما يتغابن الناس فيه عادة جاز البيع من غير كراهة ، وإن كانت شيئا قليل القيمة كفلس وجوزة ونحو ذلك يجوز مع الكراهة ، وإن كان شيئا لا قيمة له أصلا ككف من تراب ونحوه لا يجوز البيع أصلا ; لأن الزيادة لا يقابلها عوض فيتحقق الربا .

التالي السابق


الخدمات العلمية