بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) تراب الصاغة فإن كان فيه فضة خالصة فحكمه حكم تراب معدن الفضة ، وإن كان فيه ذهب خالص فحكمه حكم تراب معدن الذهب ، وإن كان فيه ذهب وفضة ، فإن اشتراه بذهب أو فضة لم يجز ; لاحتمال أن يكون ما فيه من الذهب أو الفضة أكثر أو أقل أو مثله - فيتحقق الربا ولو اشتراه بذهب وفضة جاز ; لأنه اشترى ذهبا وفضة بذهب وفضة فيجوز ، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس ، ويراعى فيه شرائط الصرف ولو اشتراه بعرض جاز ; لانعدام احتمال الربا ، وهذا كله إذا خلص منه شيء ، فإن لم يخلص تبين أن البيع كان فاسدا ، وعلى هذا الأصل يخرج بيع الدراهم المغشوشة التي الغش فيها هو الغالب بفضة خالصة أنه لا يجوز إلا على طريق الاعتبار .

وجملة الكلام فيه أن الدراهم المضروبة أقسام ثلاثة : إما أن تكون الفضة فيها هي الغالبة ، وإما أن يكون الغش فيها هو الغالب ، وإما أن يكون الفضة والغش فيها على السواء : فإن كانت الفضة فيها هي الغالبة بأن كان ثلثاها فضة وثلثها صفرا ، أو كانت ثلاثة أرباعها فضة وربعها صفرا ، ونحو ذلك - فحكمها حكم الفضة الخالصة ، لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا سواء بسواء ، وكذا بيع بعضها ببعض لا يجوز إلا مثلا بمثل ; لأن اعتبار الغالب وإلحاق المغلوب بالعدم هو الأصل في أحكام الشرع ، ولأن الدراهم الجياد لا تخلو عن قليل غش ; لأن الفضة لا تنطبع بدونه على ما قيل ، فكان قليل الغش مما لا يمكن التحرز عنه ، فكانت العبرة للغلبة وإن كان الغش فيها هو الغالب فإن كانت الفضة لا تخلص بالذوب والسبك بل تحترق ويبقى النحاس - فحكمها حكم النحاس الخالص ; لأن الفضة فيها إذا كانت مستهلكة كانت ملحقة بالعدم ، فيعتبر كله نحاسا لا يباع بالنحاس إلا سواء بسواء ، يدا بيد .

وإن كانت تخلص من النحاس ولا تحترق ، ويبقى النحاس على حاله أيضا - فإنه يعتبر فيه كل واحد منهما على حاله ، ولا يجعل أحدهما تبعا للآخر ، كأنهما منفصلان ، ممتازان أحدهما عن صاحبه ; لأنه إذا أمكن تخليص أحدهما من صاحبه على وجه يبقى كل واحد منهما بعد الذوب والسبك - لم يكن أحدهما مستهلكا - فلا يجوز بيعها بفضة خالصة إلا على طريق الاعتبار ، وهو أن تكون الفضة الخالصة أكثر من الفضة المخلوطة ، يصرف إلى الفضة المخلوطة مثلها من الفضة الخالصة ، والزيادة إلى الغش ، كما لو باع فضة وصفرا ممتازين بفضة خالصة ، فإن كانت الفضة الخالصة أقل من المخلوطة لم يجز ; لأن زيادة الفضة المخلوطة مع الصفر يكون فضلا خاليا من العوض في عقد المعاوضة ، فيكون ربا ، وكذا إذا كانت مثلها ، لأن الصفر يكون فضلا لا يقابله عوض ، وكذا إذا كان لا يدرى قدر الفضتين أيهما أكثر ، أو هما سواء - لا يجوز عندنا .

وعند زفر يجوز ، وقد ذكرنا الحجج فيما قبل وذكر في الجامع إذا كانت الدراهم ثلثاها صفرا وثلثها فضة ، ولا يقدر أن يخلص الفضة من الصفر ، ولا يدرى إذا خلصت أيبقى الصفر أم يحترق ، أنه يراعى في بيع هذه الدراهم بفضة خالصة طريق الاعتبار ، ثم إذا كانت الفضة الخالصة أكثر حتى جاز البيع - يكون هذا صرفا وبيعا [ ص: 197 ] مطلقا ، فيراعى في الصرف شرائطه ، وإذا فسد بفوات شرط منه يفسد البيع في الصفر ; لأنه لا يمكن تميزه إلا بضرر ، وبيع ما لا يمكن تمييزه عن غيره إلا بضرر فاسد على ما ذكرنا ولو بيعت هذه الدراهم بذهب جاز ; لأن المانع هو الربا ، واختلاف الجنس يمنع تحقيق الربا ، لكن يراعى فيه شرائط الصرف ; لأنه صرف ، وإذا فات شرط منه حتى فسد يفسد البيع في الصفر أيضا لما قلنا ولو بيعت بجنسها من الدراهم المغشوشة جاز متساويا ومتفاضلا ، نص عليه محمد في الجامع .

ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس ، كما لو باع فضة منفصلة وصفرا منفصلا بفضة وصفر منفصلين ، وقالوا في الستوقة إذا بيع بعضها ببعض متفاضلا : إنه يجوز ، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس ، ومشايخنا لم يفتوا في ذلك إلا بالتحريم احترازا عن فتح باب الربا ، وقالوا في الدراهم القطر يفنيه يجوز بيع واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة منها بدرهم فضة ; لأن ما فيها من الفضة يكون بمثل وزنها من الفضة الخالصة ، وزيادة الفضة تكون بمقابلة الصفر ، ولا يجوز بيع ستة منها بدرهم فضة ; لأن الصفر الذي فيها يبقى فضلا خاليا عن العوض في عقد المعاوضة فيكون ربا ، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفتي بجواز هذا .

وإن كانت الفضة والغش فيها سواء فلم يقطع محمد الجواب فيه في الجامع ، لكنه بناه على قول الصيارفة ، وحكى عنهم أنهم قالوا : إن الفضة والصفر إذا خلطا لا تتميز الفضة من الصفر حتى يحترق الصفر ; لأنهما لا يتميزان إلا بذهاب أحدهما ، والصفر أسرعهما ذهابا ، فقال في هذه الدراهم : إن كانت الفضة هي الغالبة ، أي : على ما يقوله الصيارفة أن الصفر يتسارع إليه الاحتراق عند الإذابة والسبك - فلا يجوز بيعها بالفضة الخالصة ، ولا بيع بعضها ببعض إلا سواء بسواء كبيع الزيوف بالجياد ; لأن الصفر إذا كان يتسارع إليه الاحتراق كان مغلوبا مستهلكا فكان ملحقا بالعدم ، وإن لم يغلب أحدهما على الآخر وبقيا على السواء - يعتبر كل واحد منهما على حياله كأنهما منفصلان ، ويراعى في بيعهما بالفضة الخالصة طريق الاعتبار كما في النوع الأول ، ويجوز بيع بعضها ببعض متساويا ومتفاضلا ، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس كما في النوع الأول والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية