بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( ومنها ) أن يكون معلوم القدر بكيل ، أو وزن ، أو ذرع يؤمن عليه فقده عن أيدي الناس ، فإن كان لا يؤمن فالسلم فاسد بأن أعلم قدره بمكيال لا يعرف عياره بأن قال : بهذا الإناء ولا يعلم كم يسع فيه ، أو بحجر لا يعرف عياره بأن قال : بهذا الحجر ولا يعلم كم وزنه ، أو بخشبة لا يعرف قدرها بأن قال : بهذه الخشبة ولا يعرف مقدارها ، أو بذراع يده ، ولو كان هذا في بيع العين بأن قال : بعتك من هذه الصبرة ملء هذا الإناء بدرهم ، أو من هذا الزيت وزن هذا الحجر بدرهم : يجوز في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه لا يجوز في بيع العين أيضا كما لا يجوز في السلم ، وروي عن أبي يوسف أنه كان يقول أولا : لا يجوز ، ثم رجع ، وقال : يجوز .

( وجه ) هذه الرواية أن هذا البيع مكايلة ، والعلم بمقدار المبيع في بيع المكايلة شرط الصحة ولم يوجد فيفسد كما لو باع قفزانا من هذه الصبرة ولظاهر الرواية الفرق بين السلم وبين بيع العين .

( ووجه ) الفرق بينهما من وجهين : أحدهما - أن التسليم في باب السلم لا يجب عقيب العقد ، وإنما يجب بعد محل الأجل فيحتمل أن يملك الإناء قبل محل الأجل ، وهذا الاحتمال إن لم يكن غالبا فليس بنادر أيضا وإذا هلك يصير المسلم فيه مجهول القدر ، بخلاف بيع العين ; لأنه يوجب التسليم عقيب العقد ، وهلاك القفيز عقيب العقد بلا فصل نادر ، والنادر ملحق بالعدم فلا يصير المبيع مجهول القدر ، والثاني - أن القدرة على تسليم المبيع شرط انعقاد العقد وصحته ، والقدرة على التسليم عند العقد فائتة في باب السلم ; لأن السلم بيع المفاليس ، وفي ثبوت القدرة عند محل الأجل شك ، قد تثبت وقد لا تثبت ; لأنه إن بقي المكيال والحجر والخشبة تثبت .

وإن لم يبق لا يقدر فوقع [ ص: 208 ] الشك في ثبوت القدرة فلا تثبت بالشك على الأصل المعهود في غير الثابت بيقين إذا وقع الشك في ثبوته أنه لا يثبت ، بخلاف بيع العين ; لأن هناك القدرة على التسليم ثابتة عند العقد ، وفي فواتها بالهلاك شك فلا تفوت بالشك على الأصل المعهود في الثابت بيقين إذا وقع الشك في زواله أنه لا يزول بالشك .

وأما قوله : إن العلم بمقدار المبيع في بيع المكايلة شرط الصحة فنقول : العلم بذلك لا يشترط لعينه بل لصيانة العقد عن الجهالة المفضية إلى المنازعة ، وهذا النوع من الجهالة لا يفضي إلى المنازعة لإمكان الوصول إلى العلم بقدر المبيع بالكيل للحال ، بخلاف بيع قفزان من الصبرة ; لأن هناك لا طريق للوصول إلى العلم بمقدار المبيع فالمشتري يطالبه بزيادة ، والبائع لا يعطيه فيتنازعان فكانت الجهالة مفضية إلى المنازعة فهو الفرق بين الفصلين .

وقيل : إنما يجوز هذا في بيع العين إذا كان الإناء من خزف أو خشب أو حديد أو نحو ذلك ; لأنه لا يحتمل الزيادة والنقصان .

وأما إذا كان مثل الزنبيل ، والجوالق ، والغرارة ونحو ذلك فلا يجوز ; لأنه يحتمل الزيادة والنقصان ، والله سبحانه وتعالى أعلم ولو كان المسلم فيه مكيلا فعلم قدره بالوزن المعلوم أو كان موزونا فعلم قدره بالكيل المعلوم : جاز ; لأن الشرط كونه معلوم القدر بمعيار يؤمن فقده ، وقد وجد ، بخلاف ما إذا باع المكيل بالمكيل وزنا بوزن متساويا في الوزن ، أو باع الموزون بالموزون كيلا بكيل متساويا في الكيل أنه لا يجوز ما لم يتساويا في الكيل أو الوزن ; لأن شرط جواز السلم كون المسلم فيه معلوم القدر ، والعلم بالقدر كما يحصل بالكيل يحصل بالوزن .

فأما شرط الكيل والوزن في الأشياء التي ورد الشرع فيها باعتبار الكيل والوزن في بيع العين ثبت نصا فكان بيعها بالكيل أو الوزن مجازفة فلا يجوز ، أما في باب السلم فاعتبار الكيل والوزن لمعرفة مقدار المسلم فيه وقد حصل ، والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية