بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
والذي يختص بالإشراك بيان القدر الذي تثبت فيه الشركة فنقول وبالله التوفيق : المشترى لا يخلو إما أن يكون لواحد وإما أن يكون لاثنين أو أكثر فإن كان لواحد فأشرك فيه غيره فلا يخلو إما أن يشركه في قدر معلوم كالنصف والثلث والربع ونحو ذلك ، وإما أن أطلق الشركة فإن أشركه في قدر معلوم فله ذلك القدر لا شك فيه ; لأن حكم التصرف فيه يثبت في قدر ما أضيف إليه هو الأصل فإن أطلق الشركة بأن قال أشركتك في هذا الكر فله نصف الكر كما لو قال : أشركتك في نصف الكر ; لأن الشركة المطلقة تقتضي المساواة فتقتضي أن يكون نصيب الرجل مثل نصيبه .

ولو أشرك رجلا في نصفه فلم يقبضه حتى هلك نصفه فالرجل بالخيار إن شاء أخذ نصف ما بقي وهو ربع الكر وإن شاء ترك ; لأنه كان له نصف شائع من ذلك فما هلك هلك على الشركة وما بقي بقي على الشركة وله الخيار إذا كان قبل القبض ; لأن الصفقة قد تفرقت عليه ، وكذلك لو باع رجل نصف الكر ثم هلك نصفه قبل القبض لما قلنا ولو كان مكان الهلاك استحقاق بأن استحق نصف الكر فههنا يختلف حكم الشركة والبيع فيكون النصف الباقي للمشتري خاصة في البيع وفي الشركة يكون بينهما وإنما كان كذلك ; لأن البيع أضيف إلى نصف شائع وتعذر تنفيذه في النصف المستحق لانعدام الملك وأمكن تنفيذه في نصف المملوك فيجب تنفيذه فيه وكذلك في الشركة إلا أن تنفيذه في النصف المملوك يقتضي المساواة بينهما في ذلك النصف ، وذلك بأن يكون نصفه للرجل ونصفه له ، ولو اشترى عبدا فقال له رجل : أشركني في هذا العبد فقال : قد أشركتك ثم قال له رجل آخر : مثل ذلك فأشركه فيه إن كان الثاني علم بمشاركة الأول فله الربع وللمشتري الربع والنصف للأول .

وإن كان لم يعلم بمشاركته فالنصف له والنصف للأول ولا شيء للمشتري ; لأنه إذا علم الثاني بمشاركة الأول فلم يطلب الشركة منه إلا في نصيبه خاصة [ ص: 227 ] والشركة في نصيبه تقتضي المساواة بين النصيبين ، وهي أن يكون لكل واحد منهما الربع ، وإذا لم يعلم بالشركة فقوله : أشركني طلب الشركة في الكل ، والإشراك في الكل أن يكون نصفه له والأول قد استحق النصف بالمشاركة فيستحق الثاني النصف الباقي تحقيقا للشركة المقتضية للمساواة ، ولو قال لرجل : اشتر جارية فلان بيني وبينك ، فقال المأمور : نعم ثم لقيه غيره فقال له : مثل ما قال الأول فقال المأمور : نعم ، ثم اشترى الجارية فالجارية بين الآمرين ولا شيء منها للمأمور ; لأن الأول وكله بشراء نصف الجارية وبقبول الوكالة الثانية لا يخرج عن كونه وكيلا للأول ; لأنه لا يمكن إخراج نفسه عن الوكالة من غير محضر من الموكل فبقي وكيلا له بشراء النصف .

فإذا قبل الوكالة من الثاني صار وكيلا في شراء النصف الآخر فإذا اشترى الجارية فقد اشتراها لموكليه فكانت بينهما ، ولو لقيه ثالث فقال له : مثل ما قال الأولان فقال : نعم ، ثم اشتراها كانت الجارية للأولين ولا شيء للثالث ; لأنه قد بقي وكيلا للأولين إذ لا يملك إخراج نفسه عن وكالتهما حال غيبتهما فلم يصح قبوله الوكالة من الثالث شريكان شركة عنان في الرقيق أمر أحدهما صاحبه أن يشتري عبد فلان بينه وبين المأمور ثم أمره آخر بمثل ذلك فاشتراه ، فالنصف للأجنبي والنصف للشريكين ; لأن كل واحد من الشريكين يملك شراء الرقيق بعقد الشركة من غير أمر فكان الأمر سفها فلم يصح وصح من الأجنبي فاستحق النصف ، واستحقاق النصف تقتضيه الشركة والله عز وجل أعلم .

هذا إذا كان المشترى لواحد فأشركه فإن كان لاثنين فلا يخلو إما أن يكون أشرك أحدهما رجلا ، وإما أن أشركاه جميعا ، فإن أشركه أحدهما ، فإما أن أشركه في نصيبه خاصة بأن قال : أشركتك في نصيبي ، وإما أن أشركه في نصفه بأن قال : أشركتك في نصفي ، وإما أن أشركه مطلقا بأن قال : أشركتك في هذا العبد ، وإما أن أشركه في نصيبه ونصيب صاحبه ، وإما أن أشركه في نصفه بأن قال : أشركتك في نصف هذا العبد فإن أشركه في نصيبه خاصة فله النصف من نصيبه ; لأن الشركة المطلقة في نصيبه تقتضي أن يكون نصيبه فيه مثل نصيبه ; لأنها تقتضي المساواة ، وكذا لو أشركه في نصفه ; لأن الشركة المطلقة في نصفه تقتضي المساواة فيه ، وإن أشركه مطلقا فإن أجاز شريكه فله النصف كاملا ، والنصف لهما وإن لم يجز فالربع له لما ذكرنا أن الشركة المطلقة تقتضي المساواة فتقتضي أن يكون نصيبه وحده مثل نصيبهما جميعا إلا أنه إذا لم يجز تعذر تنفيذ الإشراك في نصيبه فينفذ في نصيب صاحبه فيكون له الربع .

وإذا أجاز أمكن إجراء الشركة على إطلاقها وهي بإطلاقها تقتضي المساواة ، وذلك في أن يكون له النصف ولكل واحد منهما الربع وإن أشركه في نصيبه ونصيب صاحبه فكذلك في ظاهر الرواية أنه إن أجاز صاحبه فله النصف ، والنصف الآخر لهما وإن لم يجز فله الربع وروي عن أبي يوسف في النوادر أنه إن أجاز كان بينهما أثلاثا ، وإن أبى أن يجيز كان له ثلث ما في يد الذي أشركه وهو سدس الكل .

( وجه ) هذه الرواية أن إشراك أحدهما وإجازة الآخر بمنزلة إشراكهما معا ; لأن الإجازة تستند إلى حال العقد فكأنهما أشركاه معا ; ولأن الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة فصار كأن العاقد أشرك بوكالة صاحبه ( وجه ) ظاهر الرواية أن الإشراك والإجازة تثبت على التعاقب لوجود الإشراك والإجازة على التعاقب ، والحكم يثبت على وفق العلة فصار كما لو أشرك كل واحد منهما على التعاقب ، قوله الإجازة : تستند إلى حالة العقد قلنا : نعم ، لكن الثابت بطريق الاستناد يثبت للحال ثم يستند فكان حكم الإجازة متأخرا عن حكم الإشراك ثبوتا ، وإن أشركه في نصف العبد فأجاز شريكه فله نصف ما في يد هذا ونصف ما في يد الآخر ، وإن لم يجز فله نصف ما في يد الذي أشركه لما قلنا هذا إذا أشركه أحدهما ، فأما إذا أشركاه جميعا فلا يخلو إما أن أشركاه معا .

وإما أن أشركاه على التعاقب ، فإن أشركاه معا فالقياس أن يكون له النصف كاملا ولكل واحد منهما الربع وفي الاستحسان يكون بينهم أثلاثا وإن أشركاه على التعاقب مطلقا ولم يبينا قدر الشركة أو أشركاه في نصيبهما بأن قال كل واحد منهما : أشركتك في نصيبي ولم يبين في كم أشركه كان له النصف وللأولين النصف ( وجه ) القياس أنه لما أشركه كل واحد منهما فقد استحق نصف نصيبه فكان النصف له والنصف لهما جميعا كما لو أشركاه على التعاقب .

( وجه ) الاستحسان وهو الفرق بين حالة الاجتماع والافتراق أن الإشراك المطلق من كل واحد منهما إياه في زمان واحد يقتضي المساواة في [ ص: 228 ] أنصباء الكل ، وهو أن يكون نصيب كل واحد منهم مثل نصيب الآخر في أن يكون المشترى بينهم أثلاثا بخلاف الإشراك على التعاقب ; لأن الإشراك من أحدهما مطلقا في زمان يقتضي أن يكون نصيبه مثل نصيبه ، وكذلك الإشراك الآخر في الزمان الثاني فيجتمع له ربعان وهو النصف لكل واحد منهما الربع والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية