بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ويجوز اقتداء العاري باللابس ; لأن تحريمة الإمام انعقدت لما يبني عليه المقتدي ; لأن الإمام يأتي بما يأتي به المقتدي وزيادة فيقبل البناء ، وكذا اقتداء العاري بالعاري لاستواء حالهما فتتحقق المشاركة في التحريمة ، ثم العراة يصلون قعودا بإيماء ، وقال بشر : يصلون قياما بركوع وسجود ، وهو قول الشافعي .

( وجه ) قولهما أنهم عجزوا عن تحصيل شرط الصلاة وهو ستر العورة .

وقدروا على تحصيل أركانها ، فعليهم الإتيان بما قدروا عليه ، وسقط عنهم ما عجزوا عنه ، ولأنهم لو صلوا قعودا تركوا أركانا كثيرة وهي : القيام والركوع والسجود ، وإن صلوا قياما تركوا فرضا واحدا وهو ستر العورة ، فكان أولى ، والدليل عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له { صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى الجنب } ، فهذا يستطيع أن يصلي قائما فعليه الصلاة قائما .

( ولنا ) ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبوا البحر فانكسرت بهم السفينة ، فخرجوا من البحر عراة ، فصلوا قعودا بإيماء .

وروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا : " العاري يصلي قاعدا بالإيماء " والمعنى فيه أن للصلاة قاعدا ترجيحا من وجهين : أحدهما - أنه لو صلى قاعدا فقد ترك فرض ستر العورة الغليظة وما ترك فرضا آخر أصلا ; لأنه أدى فرض الركوع والسجود ببعضهما وهو الإيماء ، وأدى فرض القيام ببدله وهو القعود ، فكان فيه مراعاة الفرضين جميعا ، وفيما قلتم إسقاط أحدهما أصلا وهو ستر العورة ، فكان ما قلناه أولى ، والثاني - أن ستر العورة أهم من أداء الأركان لوجهين : أحدهما - أن ستر العورة فرض في الصلاة وغيرها ، والأركان فرائض الصلاة لا غيرها ، والثاني - أن سقوط هذه الأركان إلى الإيماء جائز في النوافل من غير ضرورة كالمتنفل على الدابة ، وستر العورة لا تسقط فرضيته قط من غير ضرورة فكان أهم ، فكان مراعاته أولى ، فلهذا جعلنا الصلاة قاعدا بالإيماء أولى ، غير أنه إن صلى قائما بركوع وسجود أجزأه ; لأنه وإن ترك فرضا آخر فقد كمل الأركان الثلاثة وهي : القيام والركوع والسجود ، وبه حاجة إلى تكميل هذه الأركان ، فصار تاركا لفرض ستر العورة الغليظة أصلا لغرض صحيح ، فجوزنا له ذلك لوجود أصل الحاجة ، وحصول الغرض ، وجعلنا القعود بالإيماء أولى لكون ذلك الفرض أهم ، ولمراعاة الفرضين جميعا من وجه .

وقد خرج الجواب عما ذكروا من المعنى وتعلقهم بحديث عمران بن حصين غير مستقيم ; لأنه غير مستطيع حكما ، حيث افترض عليه ستر العورة الغليظة ، ثم لو كانوا جماعة ينبغي لهم أن يصلوا فرادى ; لأنهم لو صلوا بجماعة : فإن قام الإمام وسطهم احترازا عن ملاحظة سوأة الغير فقد ترك سنة التقدم على الجماعة ، والجماعة أمر مسنون ، فإذا كان لا يتوصل إليه إلا بارتكاب بدعة ، وترك سنة أخرى - لا يندب إلى تحصيلها ، بل يكره تحصيلها وإن تقدمهم الإمام وأمر القوم بغض أبصارهم كما ذهب إليه الحسن البصري لا يسلمون عن الوقوع في المنكر أيضا ، فإنه قلما يمكنهم غض البصر على وجه لا يقع على عورة الإمام ، مع أن غض البصر في الصلاة مكروه أيضا ، نص عليه القدوري لما يذكر أنه مأمور أن ينظر في كل حالة إلى موضع مخصوص ليكون البصر ذا حظ من أداء هذه العبادات كسائر الأعضاء والأطراف ، وفي غض البصر فوات ذلك ، فدل أنه لا يتوصل إلى تحصيل الجماعة إلا بارتكاب أمر مكروه فتسقط الجماعة عنهم ، فلو صلوا مع هذه الجماعة فالأولى لإمامهم أن يقوم وسطهم لئلا يقع بصرهم على عورته ، فإن تقدمهم جاز أيضا ، وحالهم في هذا الموضع كحال النساء في الصلاة ، إلا أن الأولى أن يصلين وحدهن ، وإن صلين بجماعة قامت إمامتهن وسطهن ، وإن تقدمتهن جاز ، فكذلك حال العراة .

التالي السابق


الخدمات العلمية