بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) البيع الفاسد فهو كل بيع فاته شرط من شرائط الصحة ، وقد ذكرنا شرائط الصحة في مواضعها .

( وأما ) حكمه فالكلام في حكمه يقع في ثلاث مواضع : أحدها في .

بيان أصل الحكم ، والثاني في بيان صفته ، والثالث في بيان شرائطه ، أما أصل الحكم فهو ثبوت الملك في الجملة عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله لا حكم للبيع الفاسد فالبيع عنده قسمان : جائز ، وباطل لا ثالث لهما ، والفاسد والباطل سواء ، وعندنا الفاسد قسم آخر وراء الجائز والباطل ، وهذا على مثال ما يقول في أقسام المشروعات أن الفرض والواجب سواء ، وعندنا هما قسمان حقيقة على ما عرف في أصول الفقه .

( وجه ) قوله أن هذا بيع منهي عنه ، فلا يفيد الملك قياسا على بيع الخمر والخنزير والميتة والدم ، ودلالة الوصف ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ، ولا الصاع بالصاعين } .

وروي أنه عليه الصلاة والسلام { نهى عن بيع وشرط } وروي أنه عليه الصلاة والسلام { قال لعتاب بن أسيد حين بعثه إلى مكة انههم عن أربع عن بيع ما لم يقبضوا ، وعن ربح ما لم يضمنوا وعن شرطين في بيع ، وعن بيع ، وسلف } .

وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال { : لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء } ، ونحو ذلك ، والمنهي عنه يكون حراما ، والحرام لا يصلح سببا لثبوت الملك ; لأن الملك نعمة ، والحرام لا يصلح سببا لاستحقاق النعمة ، ولهذا بطل بيع الخمر والخنزير والميتة والدم فكذا هذا .

( ولنا ) أن هذا بيع مشروع فيفيد الملك في الجملة استدلالا بسائر البياعات المشروعة ، والدليل على أنه بيع أن البيع في اللغة مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب مالا كان أو غير مال قال الله - سبحانه وتعالى - { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } سمى مبادلة الضلالة بالهدى اشتراء وتجارة فقال - سبحانه وتعالى - { فما ربحت تجارتهم } ، والتجارة مبادلة المال بالمال قال الله - عز شأنه - { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } سمى - سبحانه وتعالى - مبادلة الأنفس والأموال بالجنة اشتراء وبيعا حيث قال - تعالى - في آخر الآية { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } ، وفي عرف الشرع هو مبادلة مال متقوم بمال متقوم ، وقد وجد فكان بيعا .

والدليل على أنه مشروع النصوص العامة المطلقة في باب البيع من نحو قوله تعالى عز وجل - { ، وأحل الله البيع } ، وقوله - عز شأنه - { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ، ونحو ذلك مما ورد من النصوص في هذا الباب عاما مطلقا ، فمن ادعى التخصيص والتقييد فعليه الدليل .

( ولنا ) الاستدلال بدلالة الإجماع أيضا ، وهو أنا أجمعنا على أن البيع الخالي عن الشروط الفاسدة مشروع ومفيد للملك ، وقران هذه الشروط بالبيع ذكرا لم يصح ، فالتحق ذكرها بالعدم ، إذ الموجود الملحق بالعدم شرعا ، والعدم الأصلي سواء ، وإذا ألحق بالعدم في نفس البيع خاليا عن المفسد والبيع الخالي عن المفسد مشروع ومفيد للملك بالإجماع ، وهذا استدلال قوي .

( وأما ) النهي فالجواب عن التعلق به أن هذا نهي عن غير البيع لا عن عينه لوجوه ثلاثة : أحدها أن شرعية أصل البيع وجنسه ثبت معقول المعنى ، وهو أنه سبب لثبوت الاختصاص واندفاع المنازعة ، وأنه سبب بقاء العالم إلى حين إذ لا قوام للبشر إلا بالأكل والشرب والسكنى واللباس ، ولا سبيل إلى استبقاء النفس بذلك إلا بالاختصاص به واندفاع المنازعة ، وذلك سبب الاختصاص واندفاع المنازعة ، وهو البيع ، ولا يجوز ورود الشرع عما عرف حسنه أو حسن أصله بالعقل ; لأنه يؤدي إلى التناقض ، ولهذا لم يجز النهي عن الإيمان بالله - عز وجل - وشكر النعم ، وأصل العبادات لثبوت حسنها بالعقل فيحمل النهي المضاف إلى البيع على غيره ضرورة .

والثاني إن سلم جواز ورود النهي عن البيع في الجملة ، لكن حمله على الغير ههنا أولى من وجهين : أحدهما أنه عمل بالدلائل بقدر الإمكان ، والثاني أن في الحمل على البيع نسخ المشروعية ، وفي الحمل على غيره ترك العمل بحقيقة الكلام والحمل على المجاز ، ولا شك أن الحمل على المجاز أولى من الحمل على التناسخ ; لأن الحمل على المجاز من باب نسخ [ ص: 300 ] الكلام ، ونسخ المشروعية نسخ الحكم والحكم هو المقصود ، والكلام وسيلة ونسخ الوسيلة أولى من نسخ المقصود والله عز وجل أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية