بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وأما الذي يرجع إلى الوكيل فهو أن يكون عاقلا ، فلا تصح وكالة المجنون ، والصبي الذي لا يعقل ، لما قلنا .

وأما البلوغ ، والحرية ، فليسا بشرط لصحة الوكالة ، فتصح وكالة الصبي العاقل ، والعبد ، مأذونين كانا أو محجورين وهذا عند أصحابنا .

وقال الشافعي - رحمه الله - وكالة الصبي غير صحيحة ; لأنه غير مكلف ، ولا تصح وكالة المجنون .

( ولنا ) ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { لما خطب أم سلمة قالت : إن أوليائي غيب يا رسول الله فقال : صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من يكرهني ثم قال لعمرو ابن أم سلمة : قم فزوج أمك مني فزوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صبيا } والاعتبار بالمجنون غير سديد ; لأن العقل شرط أهلية التصرفات الشرعية ، وقد انعدم هناك ووجد هنا ; فتصح وكالته كالبالغ إلا أن حقوق العقد من البيع ونحوه ، ترجع إلى الوكيل إذا كان بالغا ، وإذا كان صبيا ترجع إلى الموكل ، لما نذكر في موضعه إن شاء الله تعالى .

وكذا ردة الوكيل : لا تمنع صحة الوكالة ; فتجوز وكالة المرتد ، بأن وكل مسلم مرتدا ; لأن وقوف تصرفات المرتد ; لوقوف ملكه والوكيل يتصرف في ملك الموكل ، وإنه نافذ التصرفات .

وكذا لو كان مسلما وقت التوكيل ، ثم ارتد ، فهو على وكالته لما قلنا إلا أن يلحق بدار الحرب ، فتبطل وكالته لما نذكر في موضعه .

( وأما ) علم الوكيل : فهل هو شرط لصحة الوكالة ؟ لا خلاف في أن العلم بالتوكيل في الجملة شرط ، إما علم الوكيل ، وإما علم من يعامله حتى أنه لو وكل رجلا ببيع عبده ، فباعه الوكيل من رجل قبل علمه ، وعلم الرجل بالتوكيل ، لا يجوز بيعه حتى [ ص: 21 ] يجيزه الموكل ، أو الوكيل بعد علمه بالوكالة ; لأن حكم الآمر لا يلزم إلا بعد العلم بالمأمور به ، أو القدرة على اكتساب سبب العلم بالمأمور به ، كما في أوامر الشرع .

( وأما ) علم الوكيل على التعيين بالتوكيل : فهل هو شرط ؟ ذكر في الزيادات أنه شرط .

وذكر في الوكالة أنه ليس بشرط فإنه قال : إذا قال الموكل لرجل : اذهب بعبدي هذا إلى فلان ، فيبيعه فلان منك ، فذهب الرجل بالعبد إليه ، وأخبره أن صاحب العبد أمره ببيعه منه ، فاشتراه منه صح شراؤه ، وإن لم يخبره بذلك فالبيع جائز كذا ذكر محمد في كتاب الوكالة ، وجعل علم المشتري بالتوكيل كعلم البائع الوكيل .

وذكر في الزيادات أنه لا يجوز البيع ، وصورة المسألة في الصبي المأذون ، وذكر في المأذون الكبير ما يدل على جواز البيع ، فإنه قال : إذا قال المولى لقوم : بايعوا عبدي ; فإني قد أذنت له في التجارة ، فبايعوه جاز ، وإن لم يعلم العبد بإذن المولى لهم بالمبايعة .

وليس التوكيل كالوصاية ، فإن من أوصى إلى رجل غائب ، أي جعله وصيا بعد موته ، ثم مات الموصي ، ثم إن الوصي باع شيئا من تركة الميت قبل علمه بالوصاية والموت ; فإن بيعه جائز استحسانا ، ويكون ذلك قبولا منه للوصاية حتى لا يملك إخراج نفسه منها ، والقياس أن لا يجوز .

والفرق أن الوصي خلف عن الموصي ، قائم مقامه ، كالوارث يقوم مقام المورث .

ولو باع الوارث تركة الميت بعد موته وهو لا يعلم موته جاز بيعه فكذا الوصي ، بخلاف التوكيل ; لأنه أمر من الموكل ، وحكم الأمر لا يلزم إلا بعد العلم ، أو سببه على ما مر فإذا ثبت أن العلم بالتوكيل شرط ، فإن كان التوكيل بحضرة الموكل ، أو كتب الموكل بذلك كتابا إليه ، فبلغه وعلم ما فيه ، أو أرسل إليه رسولا فبلغ الرسالة ، أو أخبره بالتوكيل رجلان أو رجل واحد عدل ، صار وكيلا بالإجماع ، وإن أخبره بذلك رجل واحد غير عدل ، فإن صدقه صار وكيلا أيضا ، وإن لم يصدقه ينبغي أن يكون على الاختلاف في العدل عند أبي حنيفة لا يكون وكيلا ، وعند أبي يوسف ، ومحمد يكون وكيلا كما في العزل على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية