بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) الذي يرجع إلى الموكل ، فإنه يرجع إلى الموكل به ، فإنه يرجع إلى بيان ما يجوز التوكيل به ، وما لا يجوز ، والجملة فيه أن التوكيل لا يخلو إما أن يكون بحقوق الله - عز وجل - وهي الحدود ، وإما أن يكون بحقوق العباد والتوكيل بحقوق الله - عز وجل - نوعان ، أحدهما بالإثبات ، والثاني بالاستيفاء ، أما التوكيل بإثبات الحدود فإن كان حدا لا يحتاج فيه إلى الخصومة كحد الزنا ، وشرب الخمر ، فلا يتقدر التوكيل فيه بالإثبات ; لأنه يثبت عند القاضي بالبينة ، أو الإقرار من غير خصومة ، وإن كان مما يحتاج فيه إلى الخصومة كحد السرقة وحد القذف ، فيجوز التوكيل بإثباته عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف لا يجوز ، ولا تقبل البينة فيهما إلا من الموكل ، وكذلك الوكيل بإثبات القصاص على هذا الخلاف .

( وجه ) قول أبي يوسف : أنه كما يجوز التوكيل فيه بالاستيفاء فكذا بالإثبات ; لأن الإثبات وسيلة إلى الاستيفاء ، ولهما الفرق بين الإثبات والاستيفاء ، وهو أن امتناع التوكيل في الاستيفاء لمكان الشبهة ، وهي منعدمة في التوكيل بالإثبات .

( وأما ) التوكيل باستيفاء حد القذف والسرقة ، فإن كان المقذوف والمسروق منه حاضرا وقت الاستيفاء جاز ; لأن ولاية الاستيفاء إلى الإمام ، وأنه لا يقدر على أن يتولى الاستيفاء بنفسه على كل حال ، وإن كان غائبا اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : يجوز ; لأن عدم الجواز لاحتمال العفو والصلح ، وأنه لا يحتملهما .

وقال بعضهم : لا يجوز ; لأنه إن كان لا يحتمل العفو والصلح فيحتمل الإقرار والتصديق ، وهذا عندنا .

وقال الشافعي : - رحمه الله - يجوز التوكيل باستيفاء حد القذف كيفما كان .

( وجه ) قوله أن هذا حقه ، فكان بسبيل من استيفائه بنفسه ، وبنائبه كما في سائر الحقوق .

( ولنا ) الفرق على قول بعض المشايخ ، وهو ما ذكرنا أنه يحتمل أنه لو كان حاضرا لصدق الرامي فيما رماه ، أو يترك الخصومة ، فلا يجوز استيفاء الحد مع الشبهة ، والشبهة لا تمنع من استيفاء سائر الحقوق ، ويجوز التوكيل بالتعزير إثباتا واستيفاء بالاتفاق .

وللوكيل أن يستوفي ، سواء كان الموكل غائبا ، أو حاضرا ; لأنه حق العبد ولا يسقط بالشبهات ، بخلاف الحدود ، والقصاص ، ولهذا ثبت بشهادة رجل وامرأتين ، فأشبه سائر الحقوق بخلاف الحد والقصاص .

( وأما ) التوكيل باستيفاء القصاص فإن كان الموكل وهو المولى حاضرا جاز ; لأنه قد لا يقدر على الاستيفاء بنفسه ، فيحتاج إلى التوكيل .

وإن كان غائبا لا يجوز ; لأن احتمال العفو قائم لجواز أنه لو كان حاضرا [ ص: 22 ] لعفا ، فلا يجوز استيفاء القصاص مع قيام الشبهة ، وهذا المعنى منعدم حالة الحضرة ، وعند الشافعي - رحمه الله - يجوز ، وإن كان غائبا ، والكلام في الطرفين على نحو ما ذكرنا في حد القذف .

التالي السابق


الخدمات العلمية