بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان حكم التوكيل .

فنقول - وبالله التوفيق - حكم التوكيل صيرورة المضاف إليه وكيلا ; لأن التوكيل إثبات الوكالة وللوكالة أحكام ( منها ) : ثبوت ولاية التصرف الذي تناوله التوكيل فيحتاج إلى بيان ما يملكه الوكيل من التصرف بموجب التوكيل بعد صحته ، وما لا يملكه فنقول - وبالله التوفيق - : الوكيل بالخصومة يملك الإقرار على موكله في الجملة عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر ، والشافعي - رحمهما الله - : لا يملك ، والأب والوصي وأمين القاضي لا يملك الإقرار على الصغير بالإجماع .

( وجه ) قولهما أن الوكيل بالخصومة وكيل بالمنازعة ، والإقرار مسالمة فلا يتناوله التوكيل بالخصومة فلا يملكه الوكيل .

( ولنا ) : أن التوكيل بالخصومة وكيل بالجواب الذي هو حق عند الله - عز وجل - ، وقد يكون ذلك إنكارا ، وقد يكون إقرارا ، فإذا أقر على موكله دل أن الحق هو الإقرار فينفذ على الموكل كما إذا أقر على موكله وصدقه الموكل ثم اختلف أصحابنا الثلاثة فيما بينهم قال : أبو حنيفة ومحمد ، يصح إقراره في مجلس القاضي لا في غيره وقال أبو يوسف : يصح فيه وفي غيره .

( وجه ) قوله أن التوكيل تفويض ما يملكه الموكل إلى غيره ، وإقرار الموكل لا تقف صحته على مجلس القاضي ، فكذا إقرار الوكيل ولهما أنه فوض الأمر إليه لكن في مجلس القاضي ; لأن التوكيل بالخصومة أو بجواب الخصومة ، وكل ذلك يختص بمجلس القاضي ، ألا ترى أن الجواب لا يلزم في غير مجلس القاضي ؟ وكذا الخصومة لا تندفع باليمين في غير مجلس القاضي ; فتتقيد بمجلس القاضي ، إلا أنه إذا أقر في غير مجلس القاضي يخرج عن الوكالة وينعزل ; لأنه لو بقي وكيلا لبقي وكيلا بالإقرار عينا ; لأن الإنكار لا يسمع منه للتناقض ، والإقرار عينا غير موكل به ، والوكيل بالخصومة في مال إذا قضى القاضي به يملك قبضه عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا يملك .

( وجه ) قوله أن [ ص: 25 ] المطلوب من الوكيل بالخصومة الاهتداء ومن الوكيل بالقبض الأمانة ، وليس كل من يهتدي إلى شيء يؤتمن عليه ، فلا يكون التوكيل بالخصومة توكيلا بالقبض .

( ولنا ) : أنه لما وكله بالخصومة في مال فقد ائتمنه على قبضه ; لأن الخصومة فيه لا تنتهي إلا بالقبض ، فكان التوكيل بها توكيلا بالقبض ، والوكيل بتقاضي الدين يملك القبض في ظاهر الرواية ; لأن حق التقاضي لا ينقطع إلا بالقبض ، فكان التوكيل به توكيلا بالقبض ; ولأن التقاضي والاقتضاء والاستيفاء واحد إلا أن المتأخرين من أصحابنا قالوا إنه لا يملك في عرف ديارنا ; لأن الناس في زماننا لا يرضون بقبض المتقاضي كالوكلاء على أبواب القضاة لتهمة الخيانة في أموال الناس ، والوكيل بقبض الدين يملك الخصومة في إثبات الدين إذا أنكر الغريم عند أبي حنيفة وعندهما لا يملك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة أيضا فيملك إقامة البينة وكذا لو أقام المدعى عليه البينة أن صاحب الدين استوفى منه ، أو أبرأه عنه قبلت بينته عنده وعندهما لا تقبل ولا يملك وأجمعوا في الوكيل بقبض العين إذا أنكر من في يده أنه لا يملك الخصومة حتى لا يملك إقامة البينة ولو أقام المدعى عليه البينة أنه اشتراها من الذي وكله بالقبض لا تسمع منه بينته في إثبات الشراء ، ولكنها تسمع لدفع خصومة الوكيل في الحال إلى أن يحضر الموكل ، وقالوا في الوكيل بطلب الشفعة وبالرد بالعيب وبالقسمة إنه يملك الخصومة .

التالي السابق


الخدمات العلمية