بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما يخرج به الوكيل عن الوكالة : فنقول - وبالله التوفيق - : الوكيل يخرج عن الوكالة بأشياء ( منها ) : عزل الموكل إياه ونهيه ; لأن الوكالة عقد غير لازم ، فكان محتملا للفسخ بالعزل والنهي ولصحة العزل شرطان : أحدهما علم الوكيل به ; لأن العزل فسخ للعقد ، فلا يلزم حكمه إلا بعد العلم به ، كالفسخ فإذا عزله وهو حاضر انعزل ، - وكذا لو كان غائبا فكتب إليه كتاب العزل ، فبلغه الكتاب ، وعلم بما فيه ، انعزل ; لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر ; وكذلك لو أرسل إليه رسولا ، فبلغ الرسالة .

وقال : إن فلانا أرسلني إليك ، ويقول : إني عزلتك عن الوكالة ، فإنه ينعزل كائنا ما كان الرسول عدلا كان أو غير عدل ، حرا كان أو عبدا ، صغيرا كان أو كبيرا ، بعد أن بلغ الرسالة على الوجه الذي ذكرنا ; لأن الرسول قائم مقام المرسل معبر وسفير عنه فتصح سفارته بعد أن صحت عبارته على أي صفة كان .

وإن لم يكتب كتابا ، ولا أرسل رسولا ، ولكن أخبره بالعزل رجلان عدلان كانا أو غير عدلين أو رجل واحد عدل ، ينعزل في قولهم جميعا ، سواء صدقه الوكيل أو لم يصدقه إذا ظهر صدق الخبر ; لأن خبر الواحد مقبول في المعاملات .

فإن لم يكن عدلا فخبر العدلين أو العدل أولى ، وإن أخبره واحد غير عدل : فإن صدقه ينعزل بالإجماع ، وإن كذبه لا ينعزل وإن ظهر صدق الخبر في قول أبي حنيفة .

وعندهما ينعزل إذا ظهر صدق الخبر وإن كذبه .

( وجه ) قولهما أن الإخبار عن العزل من باب المعاملات ، فلا يشترط فيه العدد ، ولا العدالة كما في الإخبار في سائر المعاملات .

( وجه ) قول أبي حنيفة أن الإخبار عن العزل له شبه الشهادة ; لأن فيه التزام حكم المخبر به وهو العزل ، وهو لزوم الامتناع من التصرف ، ولزوم العهدة فيما يتصرف فيه بعد العزل ، فأشبه الشهادة ; فيجب اعتبار أحد شروطها وهو العدالة أو العدد - وعلى هذا الاختلاف : الشفيع إذا أخبره بالبيع واحد غير عدل فلم يصدقه ، ولم يطلب الشفعة حتى ظهر عنده صدق الخبر فهو على شفعته عند أبي حنيفة

وعندهما بطلت شفعته ، وعلى هذا الاختلاف إذا جنى العبد جناية في بني آدم ، ثم أخبر واحد غير عدل مولاه أن عبده قد جنى ، فلم يصدقه حتى أعتقه ، لا يصير المولى مختارا للفداء عند أبي حنيفة وعندهما : يصير مختارا للفداء .

وعلى هذا الاختلاف : العبد المأذون إذا بلغه حجر المولى من غير عدل ، فلم يصدقه لا يصير محجورا عنده ، وعندهما : يصير محجورا .

وإن عزله الموكل ، وأشهد على عزله ، وهو غائب ، ولم يخبره بالعزل أحد ، لا ينعزل ، ويكون تصرفه قبل العلم بعد العزل كتصرفه قبل العزل في جميع الأحكام التي بيناها .

وعن أبي يوسف : في الموكل : إذا عزل الوكيل ولم يعلم به ، فباع الوكيل وقبض الثمن فهلك الثمن في يد الوكيل ومات [ ص: 38 ] العبد قبل التسليم إلى المشتري ، كان للمشتري أن يرجع بالثمن على الوكيل ، ويرجع الوكيل على الموكل كما قبل العزل سواء ; لأن العزل لم يصح لانعدام شرط صحته ، وهو العلم .

والثاني - أن لا يتعلق بالوكالة حق الغير ، فأما إذا تعلق بها حق الغير فلا يصح العزل بغير رضا صاحب الحق ; لأن في العزل إبطال حقه من غير رضاه ولا سبيل إليه ، وهو كمن رهن ماله عند رجل بدين له عليه أو وضعه على يدي عدل ، وجعل المرتهن أو العدل مسلطا على بيعه ، وقبض ثمنه عند حل الأجل ، فعزل الراهن المسلط على البيع ، لا يصح به عزله لما ذكرنا .

وكذلك إذا وكل المدعى عليه وكيلا بالخصومة مع المدعي بالتماس المدعي ، فعزله المدعى عليه بغير حضرة المدعي، لا ينعزل لما ذكرنا .

واختلف المشايخ فيمن وكل رجلا بطلاق امرأته إن غاب ثم عزله الزوج من غير حضرة المرأة ثم غاب قال بعضهم : لا يصح عزله ; لأنه تعلق بهذه الوكالة حق المرأة فأشبه الوكيل بالخصومة .

وقال بعضهم : يصح عزله ; لأنه غير مجبور على الطلاق ولا على التوكيل به وإنما فعله باختياره ، فيملك عزله كما في سائر الوكالات .

ولو وكل وكالة غير جائز الرجوع ، يعني بالفارسية وكيلي دماركست ، هل يملك عزله ؟ اختلف المشايخ .

قال بعضهم : إن كان ذلك في الطلاق ، والعتاق لا يملك ; لأنه لما وكله وكالة ثابتة غير جائز الرجوع عنها ، فقد ألحق حكم هذا التوكيل بالأمر ، ثم لو جعل أمر امرأته إلى رجل يطلقها متى شاء ، أو أمر عبده إلى رجل يعتقه متى شاء لا يملك الرجوع عنه ، وكذا إذا قال لرجل : طلق امرأتي - إن شئت أو أعتق عبدي إن شئت - لا يملك عزله ، كذا هذا ، وإن كان في البيع والشراء والإجارة والنكاح ونحوه يملك عزله ، وقال بعضهم : إنه يملك العزل في الكل ; لأن الوكالة ليست بلازمة ، بل هي إباحة ، وللمبيح حق المنع عن المباح .

ولو قال وقت التوكيل : كلما عزلتك فأنت وكيلي وكالة مستقبلة فعزله ينعزل ، ولكنه يصير وكيلا ثانيا وكالة مستقبلة كما شرط ; لأن تعليق الوكالة بالشرط جائز .

ولو قال الموكل للوكيل : كنت وكلتك وقلت لك : كلما عزلتك فأنت وكيلي فيه وقد عزلتك عن ذلك كله لا يصير وكيلا بعد ذلك إلا بتوكيل جديد ; لأن من علق التوكيل بشرط ثم عزله عن الوكالة قبل وجود الشرط ينعزل الوكيل ، ولا يصير وكيلا بعد ذلك بوجود الشرط .

وقال بعضهم في التوكيل المعلق : لا يملك العزل قبل وجود الشرط ، ويكون الوكيل على وكالته بعد العزل وكالة مستقبلة ، والأول أصح ; لأنه لما ملك العزل في المرسل ففي المعلق أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية