بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان محل السجود للسهو فمحله المسنون بعد السلام عندنا ، سواء كان السهو بإدخال زيادة في الصلاة أو نقصان فيها ، وعند الشافعي قبل السلام بعد التشهد فيهما جميعا ، وقال مالك : إن كان يسجد للنقصان فقبل السلام ، وإن كان يسجد للزيادة فبعد السلام .

( احتج ) الشافعي بما روى عبد الله ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 173 ] سجد للسهو قبل السلام ، وما روي أنه سجد للسهو بعد السلام فمحمول على التشهد كما حملتم السلام على التشهد في قوله صلى الله عليه وسلم : وفي كل ركعتين فسلم أي فتشهد ، ويرجح ما روينا بمعاضدة المعنى إياه من وجهين : أحدهما أن السجدة إنما يؤتى بها جبرا للنقصان المتمكن في الصلاة ، والجابر يجب تحصيله في موضع النقص لا في غير موضعه ، والإتيان بالسجدة بعد السلام تحصيل الجابر لا في محل النقصان ، والإتيان بها قبل السلام تحصيل الجابر في محل النقصان فكان أولى .

والثاني : أن جبر النقصان إنما يتحقق حال قيام الأصل ، وبالسلام القاطع لتحريمة الصلاة يفوت الأصل فلا يتصور جبر النقصان بالسجود بعده .

( واحتج ) مالك بما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في مثنى من صلاته فسجد سجدتي السهو قبل السلام ، وكان سهوا في نقصان ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فسجد سجدتي السهو بعد السلام ، وكان سهوا في الزيادة ; ولأن السهو إذا كان نقصانا فالحاجة إلى الجابر ، فيؤتى به في محل النقصان على ما قاله الشافعي ، فأما إذا كان زيادة فتحصيل السجدة قبل السلام يوجب زيادة أخرى في الصلاة ، ولا يوجب رفع شيء ، فيؤخر إلى ما بعد السلام .

ولنا حديث ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { لكل سهو سجدتان بعد السلام } من غير فصل بين الزيادة والنقصان .

وروي عن عمران بن الحصين والمغيرة بن شعبة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو بعد السلام ، وكذا روى ابن مسعود وعائشة وأبو هريرة رضي الله عنهم ، وروينا عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب ، وليبن عليه ، وليسجد سجدتين بعد السلام } ; ولأن سجود السهو أخر عن محل النقصان بالإجماع ، وإنما كان لمعنى ، ذلك المعنى يقتضي التأخير عن السلام ، وهو أنه لو أداه هناك ثم سها مرة ثانية وثالثة ورابعة يحتاج إلى أدائه في كل محل ، وتكرار سجود السهو في صلاة واحدة غير مشروع ، فأخر إلى وقت السلام احترازا عن التكرار ، فينبغي أن يؤخر أيضا عن السلام حتى أنه لو سها عن السهو لا يلزمه أخرى فيؤدي إلى التكرار ; ولأن إدخال الزيادة في الصلاة يوجب نقصانا فيها ، فلو أتى بالسجود قبل السلام يؤدي إلى أن يصير الجابر للنقصان موجبا زيادة نقص وذا غير صواب .

( وأما ) الجواب عن تعلقهم بالأحاديث فهو أن رواية الفعل متعارضة فبقي لنا رواية القول من غير تعارض ، أو ترجح ما ذكرنا لمعاضدة ما ذكرنا من المعنى إياه ، أو يوفق فيحمل ما روينا على أنه سجد بعد السلام الأول ولا محمل له سواء فكان محكما ، وما رواه محتمل يحتمل أنه سجد قبل السلام الأول ، ويحتمل أنه سجد قبل السلام الثاني ، فكان متشابها فيصرف إلى موافقة المحكم ، وهو أنه سجد قبل السلام الأخير لا قبل السلام الأول ردا للمحتمل إلى المحكم وما ذكر مالك من الفصل بين الزيادة والنقصان غير سديد ; لأنه سواء نقص أو زاد ، كل ذلك كان نقصانا ; ولأنه لو سها مرتين إحداهما بالزيادة والأخرى بالنقصان ماذا يفعل ؟ وتكرار سجدتي السهو غير مشروع .

وقد روي أن أبا يوسف ألزم مالكا بين يدي الخليفة بهذا الفصل فقال : أرأيت لو زاد ونقص كيف يصنع ؟ فتحير مالك ، وقد خرج الجواب عن أحد معنى الشافعي أن الجابر يحصل في محل الجبر لما مر أنه لا يؤتى به في محل الجبر بالإجماع ، بل يؤخر عنه لمعنى يوجب التأخير عن السلام .

وأما قوله : إن الجبر لا يتحقق إلا حال قيام أصل الصلاة فنعم ، لكن لم قلتم أن سلام من عليه السهو قاطع لتحريمة الصلاة ؟ وقد اختلف مشايخنا في ذلك ، فعند محمد وزفر لا يقطع التحريمة أصلا فيتحقق معنى الجبر ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يقطعها على تقدير العود إلى السجود أو يقطعها ثم يعود بالعود إلى السجود فيتحقق معنى الجبر ، وإذا عرف أن محله المسنون بعد السلام فإذا فرغ من التشهد الثاني يسلم ثم يكبر ويعود إلى سجود السهو ، ثم يرفع رأسه مكبرا ، ثم يتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي بالدعوات ، وهو اختيار الكرخي واختيار عامة مشايخنا بما وراء النهر ، وذكر الطحاوي أنه يأتي بالدعاء قبل السلام وبعده وهو اختيار بعض مشايخنا ، والأول أصح ; لأن الدعاء إنما شرع بعد الفراغ من الأفعال والأذكار الموضوعة في الصلاة ، ومن عليه السهو قد بقي عليه بعد التشهد الأول من الأفعال والأذكار وهو سجود السهو ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتحقق الفراغ ، [ ص: 174 ] فلذلك كان التأخير إلى التشهد الثاني أحق ، ولكن ينبغي أن لا يأتي بدعوات تشبه كلام الناس لئلا تفسد صلاته ، هذا الذي ذكرنا بيان محله المسنون .

وأما محل جوازه فنقول : جواز السجود لا يختص بما بعد السلام ، حتى لو سجد قبل السلام يجوز ولا يعيد ; لأنه أداء بعد الفراغ من أركان الصلاة إلا أنه ترك سنته وهو الأداء بعد السلام ، وترك السنة لا يوجب سجود السهو ، ولأن الأداء بعد السلام سنة ولو أمرناه بالإعادة كان تكرارا ، وأنه بدعة ، وترك السنة أولى من فعل البدعة والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية