بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( وأما ) القسم الذي للمضارب أن يعمله إذا قيل له : اعمل برأيك وإن لم ينص عليه ، فالمضاربة والشركة والخلط ، فله أن يدفع مال المضاربة مضاربة إلى غيره ، وأن يشارك غيره في مال المضاربة شركة عنان ، وأن يخلط مال المضاربة بمال نفسه ، إذا قال له رب المال : اعمل برأيك وليس له أن يعمل شيئا من ذلك ، إذا لم يقل له ذلك أما المضاربة فلأن المضاربة مثل المضاربة [ ص: 96 ] والشيء لا يستتبع مثله ، فلا يستفاد بمطلق عقد المضاربة مثله ، ولهذا لا يملك الوكيل التوكيل بمطلق العقد كذا هذا .

( وأما ) الشركة فهي أولى أن لا يملكها العقد ; لأنها أعم من المضاربة ، والشيء لا يستتبع مثله ، فما فوقه أولى .

( وأما ) الخلط فلأنه يوجب في مال رب المال حقا لغيره ، فلا يجوز إلا بإذنه ، وإن لم يقل له ذلك ، فدفع المضارب مال المضاربة مضاربة إلى غيره فنقول : لا يخلو من وجوه ، إما أن كانت المضاربتان صحيحتين ، وإما أن كانتا فاسدتين ، وإما أن كانت إحداهما صحيحة ، والأخرى فاسدة فإن كانتا صحيحتين فإن المال لا يكون مضمونا على المضارب الأول بمجرد الدفع إلى الثاني ، حتى لو هلك المال في يد الثاني قبل أن يعمل يهلك أمانة وهذا قول أصحابنا الثلاثة .

وقال زفر : يصير مضمونا بنفس الدفع ، عمل الثاني أو لم يعمل ، وإذا هلك قبل العمل يضمن ، وهو رواية عن أبي يوسف أيضا .

( وجه ) قول زفر أن رب المال إذا لم يقل للمضارب : اعمل برأيك لم يملك دفع المال مضاربة إلى غيره ، فإذا دفع صار بالدفع مخالفا ، فصار ضامنا كالمودع إذا أودع .

( ولنا ) أن مجرد الدفع إيداع منه ، وهو يملك إيداع مال المضاربة ، فلا يضمن بالدفع وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا ضمان على الأول حتى يعمل الثاني ويربح ، فإذا عمل به وربح كان ضامنا حين ربح ، وإن عمل في المال فلم يربح حتى ضاع من يده ، فلا ضمان عليه وروى محمد عن أبي يوسف أنه لا ضمان عليه حتى يعمل به الثاني ، فإذا عمل ضمن ، ربح الثاني أو لم يربح وهكذا روى ابن سماعة والفضل بن غانم ، عن أبي يوسف ، وهو قول محمد رحمه الله وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي : أن هذا ظاهر الرواية عن أبي حنيفة .

( وجه ) قولهما أنه لما عمل فقد تصرف في المال بغير إذن المالك ، فيتعين به الضمان سواء ربح أو لم يربح ولأبي حنيفة : لا سبيل إلى التضمين بالدفع ; لأنه إيداع وإبضاع ، ولا بالعمل ; لأنه ما لم يربح فهو في حكم المبضع ، والمبضع لا يضمن بالعمل ، ولا يجوز أن يضمن بالشرط ; لأنه مجرد قول ، ومجرد القول في ملك الغير ، لا يتعلق به ضمان ; لكنه إذا ربح فقد ثبت له شركة في المال بإثبات المضارب الأول ، فصار الأول مخالفا فيضمن ، كما لو خلط مال المضاربة بغيره ، أو شارك به ، وإذا وجب الضمان بالعمل والربح أو بنفس العمل على اختلافهم في ذلك ، فرب المال بالخيار إن شاء ضمن الأول ، وإن شاء ضمن الثاني .

أما على أصل أبي يوسف ومحمد في المودع إذا أودع ، فظاهر لوجود سبب وجوب الضمان من كل واحد منهما ; لأن الأول تعدى بالدفع ، والثاني تعدى بالقبض ، فصار عندهما كالمودع إذا أودع .

وأما على أصل أبي حنيفة في مسألة الوديعة فيحتاج إلى الفرق ; لأن الضمان عنده على المودع الأول ، لا على الثاني ، وفي مسألة المضاربة أثبت له خيار تضمين الثاني ، لأن المضارب الثاني يعمل في المال لمنفعة نفسه ، وهي الربح ، فكان عاملا لنفسه ، فجاز أن يضمن والمودع الثاني لم يقبض لمنفعة نفسه ، بل لمنفعة الأول ; لحفظ الوديعة فلم يضمن ، فإن ضمن المضارب الأول لا يرجع بما ضمن على الثاني ، وصحت المضاربة بين الأول والثاني ، والربح على ما شرطا ; لأنه لما تقرر الضمان على الأول ، فقد ملك المضمون ، وصار كأنه دفع مال نفسه مضاربة إلى الثاني ، فكان الربح على ما شرطا ; لأن الشرط قد صح .

وإن ضمن الثاني رجع بما ضمن على الأول ، وصار حاصل الضمان على الأول ; لأن الأول غره بالعقد ، فصار مغرورا من جهته ، فكان له أن يرجع عليه بما ضمن ، كمودع الغاصب ، وهو ضمان كفالة في الحقيقة ; لأن الأول التزم له سلامة المقبوض عن الضمان ، ولم يسلم له ، بخلاف الرهن ، وهو ما إذا غصب رجل شيئا فرهنه فهلك في يد المرتهن ، فاختار المالك تضمين المرتهن أنه يرجع على الراهن بما ضمن ، ولا يصح عقد الرهن .

( ووجه ) الفرق أن قبض المرهون شرط صحة الرهن ، ولما ضمن المرتهن تبين أن قبضه لم يصح ، فتبين أن الرهن لم يصح ، إذ لا صحة له بدون القبض ، فأما في المضاربة فيضمن الثاني إبطال القبض بعد وجوده ; لأن المضاربة عقد جائز فكان لبقائه حكم الابتداء ، كأنه ابتدأ العقد بعد أداء الضمان ، فكان التضمين إبطال القبض بعد وجوده ، وذلك لا يبطل المضاربة ألا ترى أن المضارب لو باع المال من رب المال لا تبطل المضاربة وإن بطل قبضه ولو رد المرتهن الرهن على الراهن يبطل الرهن لذلك افترقا وذكر ابن سماعة عن محمد أنه يطيب الربح للأسفل ، ولا يطيب للأعلى على قياس قول أبي حنيفة عليه الرحمة ; لأن استحقاق الأسفل بعمله ، ولا خطر في عمله ، فيطيب له الربح ، فأما الأعلى [ ص: 97 ] فإنما يستحق الربح برأس المال ، والملك في رأس المال إنما حصل له بالضمان ، فلا يخلو عن نوع خبث ، فلا يطيب له وإن كانتا فاسدتين فلا ضمان على واحد منهما ; لأن الأول أجير في مال المضاربة ، والثاني أجير الأول ، فصار كمن استأجر رجلا يعمل في ماله ، فاستأجر الأجير رجلا ، وإن كانت إحداهما صحيحة والأخرى فاسدة ، فإن كانت الأولى صحيحة والأخرى فاسدة فكذلك لا ضمان على واحد منهما وإن عمل المضارب الثاني في المال ; لأن المضارب الثاني أجير الأول ، والأجير لا يستحق شيئا من الربح ، فلم يثبت له شركة في رأس المال ، فلا يجب الضمان على الأول ولا على الثاني ; لأنه لا ضمان على الأجير ، وله أجر مثل عمله على المضارب الأول ، فلا يجب الضمان على الأول ولا على الثاني ; لأنه لا ضمان على الأجير ، وله أجر مثل عمله على المضارب الأول ، وللمضارب الأول ما شرط له من الربح لوقوع المضاربة صحيحة .

وإن كانت الأولى فاسدة والثانية صحيحة فكذلك ; لأن الأول أجير في مال المضاربة ، فلا حق له في الربح ، فلم ينفذ شرطه فيه ، فلا يلزمه الضمان إذ الضمان إنما يجب بإثبات الشركة ، ويكون الربح كله لرب المال ; لأنه ربح حصل في مضاربة فاسدة ، وللمضارب الأول أجر مثله ; لأن عمل الثاني وقع له ، فكأنه عمل بنفسه وللثاني على الأول مثل ما شرط له من الربح ; لأنه عمل مضاربة صحيحة ، وقد سمى له أشياء ، فهو مستحق للغير فيضمن هذا ، إذا لم يقل له رب المال : اعمل برأيك فأما إذا قال له : اعمل برأيك فله أن يدفع مال المضاربة مضاربة إلى غيره ; لأنه فوض الرأي إليه ، وقد رأى أن يدفعه مضاربة ، فكان له ذلك ، ثم إذا عمل الثاني وربح ، كيف يقسم الربح ؟ فنقول : جملة الكلام فيه أن رب المال لا يخلو أما إن كان أطلق الربح في عقد المضاربة ، ولم يضفه إلى المضارب ، بأن قال : على أن ما رزق الله تعالى من الربح فهو بيننا نصفان ، أو قال : ما أطعم الله تعالى من ربح فهو بيننا نصفان وإما أن أضافه إلى المضارب ، بأن قال : على أن ما رزقك الله تعالى من الربح ، أو ما أطعمك الله عز وجل من ربح أو : على أن ما ربحت من شيء ، أو ما أصبت من ربح ، فإن أطلق الربح ولم يضفه إلى المضارب ، ثم دفع المضارب الأول المال إلى غيره مضاربة بالثلث فربح الثاني ، فثلث جميع الربح للثاني ; لأن شرط الأول للثاني قد صح ; لأنه يملك نصف الربح ، فكان ثلث جميع الربح بعض ما يستحقه الأول ، فجاز شرطه للثاني ، فكان ثلث جميع الربح للثاني ، ونصفه لرب المال ; لأن الأول لا يملك من نصيب رب المال شيئا ، فانصرف شرطه إلى نصيبه لا إلى نصيب رب المال ، فبقي نصيب رب المال على حاله ، وهو النصف ، وسدس الربح للمضارب الأول ; لأنه لم يجعله للثاني فبقي له بالعقد الأول ، ويطيب له ذلك ; لأن عمل المضارب الثاني وقع له ، فكأنه عمل بنفسه ، كمن استأجر إنسانا على خياطة ثوب بدرهم ، فاستأجر الأجير من خاطه بنصف درهم ، طاب له الفضل ; لأن عمل أجيره وقع له ، فكأنه عمل بنفسه ، كذا هذا .

ولو دفع إلى الثاني مضاربة بالنصف ، فنصف الربح للثاني ، ونصفه لرب المال ، ولا شيء للمضارب الأول ; لأنه جعل جميع ما يستحقه وهو نصف الربح للثاني ، وصح جعله ; لأنه مالك للنصف ، والنصف لرب المال بالعقد الأول ، وصار كمن استأجر رجلا على خياطة ثوب بدرهم فاستأجر الأجير من خاطه بدرهم .

ولو دفعه إليه مضاربة بالثلثين ، فنصف الربح لرب المال ، ونصفه للمضارب الثاني ، ويرجع الثاني على الأول بمثل سدس الربح الذي شرطه له ; لأن شرط الزيادة إن لم ينفذ في حق رب المال لما لم يرض لنفسه بأقل من نصف الربح ، فقد صح فيما بين الأول والثاني ; لأن الأول غر الثاني بتسمية الزيادة ، والغرور في العقود من أسباب وجوب الضمان ، وهو في الحقيقة ضمان الكفالة ، وهو أن الأول صار ملتزما سلامة هذا القدر للثاني ، ولم يسلم له فيغرم للثاني مثل سدس الربح ، ولا يصير بذلك مخالفا ; لأن شرطه لم ينفذ في حق رب المال ، فالتحق بالعدم في حقه ، فلا يضمن وصار كمن استأجر رجلا لخياطة ثوب بدرهم ، فاستأجر الأجير من يخيطه بدرهم ونصف إنه يضمن زيادة الأجرة كذا هذا .

ولو أضافه إلى المضارب فدفعه الأول مضاربة إلى غيره بالثلث ، أو بالنصف ، أو بالثلثين ، فجميع ما شرط للثاني من الربح يسلم له ، وما شرط للمضارب الأول من الربح يكون بينه وبين رب المال نصفين ، بخلاف الفصل الأول .

( ووجه ) الفرق أن هنا شرط رب المال لنفسه نصف ما رزق الله تعالى للمضارب ، أو نصف ما ربح المضارب ، فإذا دفع إلى الثاني مضاربة بالثلث كان الذي رزق الله عز وجل المضارب الأول الثلثين ، فكان الثلث للثاني والثلثان بين رب المال وبين المضارب الأول نصفين ، لكل واحد منهما الثلث [ ص: 98 ] وإذا دفع مضاربة بالنصف كان ما رزقه الله تعالى للمضارب الأول النصف ، فكان النصف للثاني والنصف بينهما نصفين ، وإذا دفعه مضاربة بالثلثين كان الذي رزقه الله تعالى والثلثان للثاني ، والثلث بينهما ، لكل واحد منهما السدس وفي الفصل الأول رب المال إنما شرط لنفسه نصف جميع ما رزق الله تعالى ونصف جميع الربح ، وذلك ينصرف إلى كل الربح .

وكذا له أن يخلط مال المضاربة بمال نفسه ; لأنه فوض الرأي إليه ، وقد رأى الخلط وإذا ربح قسم الربح على المالين ، فربح ماله يكون له خاصة ، وربح مال المضاربة يكون بينهما على الشرط ، وكذا له أن يشارك غيره شركة عنان لما قلنا ، ويقسم الربح بينهما على الشرط ; لأن الشرط قد صح وإذا قسم الربح بينهما يكون مال المضاربة مع حصة المضارب من الربح ، فيستوفي منها رب المال رأس ماله ، وما فضل يكون بينهما على الشرط .

التالي السابق


الخدمات العلمية