بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما عمل سلام السهو أنه هل يبطل التحريمة أم لا ؟ فقد اختلف فيه ، قال محمد وزفر : لا يقطع التحريمة أصلا ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف الأمر موقوف : إن عاد إلى سجدتي السهو وصح عوده إليهما تبين أنه لم يقطع ، وإن لم يعد تبين أنه قطع ، حتى لو ضحك بعد ما سلم قبل أن يعود إلى سجدتي السهو لا تنتقض طهارته عندهما .

وعند محمد وزفر تنتقض ، ومن مشايخنا من قال : لا توقف في انقطاع التحريمة بسلام السهو عند أبي حنيفة وأبي يوسف بل تنقطع من غير توقف ، وإنما التوقف عندهما في عود التحريمة ثانيا ، إن عاد إلى سجدتي تعد وإلا فلا ، وهذا أسهل لتخريج المسائل ، والأول وهو التوقف في بقاء التحريمة ، وبطلانها أصح ; لأن التحريمة تحريمة واحدة فإذا بطلت لا تعود إلا بإعادة ، ولم توجد .

( وجه ) قول محمد وزفر أن الشرع أبطل عمل سلام من عليه سجدتا السهو ; لأن سجدتي السهو يؤتى بهما في تحريم الصلاة ; لأنهما شرعتا لجبران النقصان ، وإنما ينجبر إن حصلتا في تحريمة الصلاة ، ولهذا يسقطان إذا وجد بعد القعود قدر التشهد ما ينافي التحريمة ، ولا يمكن تحصيلهما في تحريمة الصلاة إلا بعد بطلان عمل هذا السلام ، فصار وجوده وعدمه في هذه الحالة بمنزلة ، ولو انعدم حقيقة كانت التحريمة باقية ، فكذا إذا التحق بالعدم .

ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن السلام جعل محللا في الشرع ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : وتحليلها ، التسليم ، والتحليل ما يحصل به التحلل ، ولأنه خطاب للقوم فكان من كلام الناس ، وإنه مناف للصلاة ، غير أن الشرع أبطل عمله في هذه الحالة لحاجة المصلي إلى جبر النقصان ، ولا ينجبر إلا عند وجود الجابر في التحريمة ليلتحق الجابر بسبب بقاء التحريمة لمحل النقصان فيجبر النقصان ، فنفينا التحريمة مع وجود المنافي لها لهذه الضرورة ، فإن اشتغل بسجدتي السهو وصح اشتغاله بهما تحققت الضرورة إلى بقاء التحريمة فبقيت ، وإن لم يشتغل لم تتحقق الضرورة فيعمل السلام في الإخراج عن الصلاة ، وإبطال التحريمة عمله .

ويبنى على هذا الأصل ثلاث مسائل : إحداها : إذا قهقه قبل العود إلى السجود بعد السلام تمت صلاته وسقط عنه السهو بالإجماع ، ولا تنتقض طهارته عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وهو قول زفر بناء على أصله في القهقهة : أنها في كل موضع لا توجب فساد الصلاة لا توجب انتقاض الطهارة ، كما إذا قعد قدر التشهد الأخير قبل السلام ، وعند محمد تنتقض طهارته .

والثانية إذا سلم وعليه سجدتا السهو ، فجاء رجل فاقتدى به قبل أن يعود إلى السجود - فاقتداؤه موقوف عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، فإن عاد إلى السجود صح وإلا فلا ، وعند محمد وزفر صح اقتداؤه به عاد أو لم يعد ، وقال بشر : لا يصح اقتداؤه به عاد أو لم يعد ، فكأنه جعل السلام قاطعا للتحريمة جزما .

والثالثة : المسافر إذا سلم على رأس الركعتين في ذوات الأربع وعليه سهو فنوى الإقامة قبل أن يعود إليه - لا ينقلب فرضه أربعا ويسقط عنه السهو عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمد وزفر ينقلب فرضه أربعا وعليه سجدتا السهو لكنه يؤخرهما إلى آخر الصلاة ، وأجمعوا على أنه لو عاد إلى سجود السهو ثم اقتدى به - رجل يصح اقتداؤه به ، إلا عند بشر .

وكذلك لو قهقه في هذه الحالة تنتقض طهارته إلا عند زفر .

وكذلك لو نوى الإقامة في هذه [ ص: 175 ] الحالة ينقلب فرضه أربعا ويؤخر سجود السهو إلى آخر الصلاة ، سواء نوى الإقامة بعد ما سجد سجدة واحدة أو سجدتين ، ثم لا يفترق الحال في سجود السهو سيما إذا سلم وهو ذاكر له ، أو ساه عنه ومن نيته أن يسجد له أو لا يسجد حتى لا يسقط عنه في الأحوال كلها ; لأن محله بعد السلام إلا إذا فعل فعلا يمنعه من البناء بأن تكلم أو قهقه أو أحدث متعمدا أو خرج عن المسجد أو صرف وجهه عن القبلة وهو ذاكر له ; لأنه فات محله وهو تحريمة الصلاة ، فيسقط ضرورة فوات محله ، وكذا إذا طلعت الشمس بعد السلام في صلاة الفجر أو احمرت في صلاة العصر سقط عنه السهو ; لأن السجدة جبر للنقص المتمكن فيجري مجرى القضاء ، وقد وجبت كاملة فلا يقضى الناقص .

التالي السابق


الخدمات العلمية