بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما حكم اختلاف المضارب ورب المال ، فإن اختلفا في العموم والخصوص ، فالقول قول من يدعي العموم ، بأن ادعى أحدهما المضاربة في عموم التجارات ، أو في عموم الأمكنة ، أو مع عموم من الأشخاص وادعى الآخر نوعا دون نوع ومكانا دون مكان ، وشخصا دون شخص ; لأن قوله : من يدعي العموم موافق للمقصود بالعقد إذ المقصود من العقد هو الربح ، وهذا المقصود في العموم أوفر .

وكذلك لو اختلفا في الإطلاق والتقييد فالقول قول من يدعي الإطلاق ، حتى لو قال رب المال : أذنت لك أن تتجر في الحنطة دون ما سواها وقال المضارب : ما سميت لي تجارة بعينها فالقول قول المضارب مع يمينه ; لأن الإطلاق أقرب إلى المقصود بالعقد على ما بينا .

وقال الحسن بن زياد : إن القول قول رب المال في الفصلين جميعا وقيل : إنه قول زفر .

( ووجهه ) أن الإذن يستفاد من رب المال ، فكان القول في ذلك قوله ، فإن قامت لهما بينة ، فالبينة بينة مدعي العموم في دعوى العموم والخصوص ; لأنها تثبت زيادة وفي دعوى التقييد والإطلاق البينة بينة مدعي التقييد ; لأنها تثبت زيادة فيه ، وبينة الإطلاق ساكتة ولو اتفقا على الخصوص ; لكنهما اختلفا في ذلك الخاص فقال رب المال : دفعت المال إليك مضاربة في البز وقال المضارب : في الطعام فالقول قول رب المال في قولهم جميعا ; لأنه لا يمكن الترجيح هنا بالمقصود من العقد لاستوائهما في ذلك فترجح بالإذن ، وإنه يستفاد من رب المال ، فإن أقاما البينة فالبينة بينة المضارب ; لأن بينته مثبتة وبينة رب المال نافية ; لأنه لا يحتاج إلى الإثبات ، والمضارب يحتاج إلى الإثبات لدفع الضمان عن نفسه ، فالبينة المثبتة للزيادة أولى وقد قالوا في البينتين إذا تعارضتا في صفة الإذن وقد وقتتا : إن الوقت الأخير أولى ; لأن الشرط الثاني ينقض الأول ، فكان الرجوع إليه أولى .

وإن اختلفا في قدر رأس المال والربح فقال رب المال : كان رأس مالي ألفين ، وشرطت لك ثلث الربح .

وقال المضارب : رأس المال ألف ، وشرطت لي نصف الربح فإن كان في يد المضارب ألف درهم يقر أنها مال المضاربة ، فالقول قول المضارب في أن رأس المال ألف ، والقول قول رب المال أنه شرط ثلث الربح وهذا قول أبي حنيفة الآخر ، وهو قول أبي يوسف ، ومحمد .

وكان قوله الأول أن القول قول رب المال في الأمرين جميعا ، وهو قول زفر .

( وجه ) قوله الأول أن الربح يستفاد من أصل المال ، وقد اتفقا على أن جملة المال مضاربة ، وادعى المضارب استحقاقا فيها ، ورب المال ينكر ذلك فكان القول قوله ، بخلاف ما إذا قال المضارب : بعض هذه الألفين خلطته بها ، أو بضاعة في يدي ; لأنهما ما اتفقا على أن الجميع مال المضاربة ، ومن كان في يده شيء فالقول قوله .

( وجه ) قوله الآخر أن القول في مقدار رأس المال قول المضارب ; لأنهما اختلفا في مقدار المقبوض ، فكان القول قول القابض ألا ترى أنه لو أنكر القبض أصلا ، وقال لم أقبض منك شيئا كان القول قوله فكذا إذا أنكر البعض دون البعض ، وإنما كان القول قول رب المال في مقدار الربح ; لأن شرط الربح يستفاد من قبله فكان القول في مقدار المشروط قوله ألا ترى أنه لو أنكر الشرط رأسا ، فقال لم أشرط لك ربحا ، وإنما دفعت إليك بضاعة كان القول قوله ؟ ؟ فكذا إذا أقر بالبعض دون البعض ، وإذا كان القول قول المضارب في قدر رأس المال في قوله الأخير ، فالقول قول رب المال في مقدار الربح في قولهم : يجعل رأس المال ألف درهم ، ويجعل للمضارب ثلث الألف الأخرى ، فلا يقبل قول رب المال في زيادة رأس المال ، ولا يقبل قول المضارب في زيادة شرط الربح وعلى قوله الأول يأخذ رب المال الألفين جميعا .

وإن كان في يده ثلاثة آلاف درهم ، والمسألة بحالها أخذ رب المال ألف درهم على قوله الأخير ، [ ص: 110 ] واقتسما ما بقي من المال أثلاثا وعلى قوله الأول ، يأخذ رب المال ألفي درهم ويأخذ ثلثي الألف الأخرى لما بينا ، وإن كان في يد المضارب قدر ما ذكر أنه قبض من رأس المال أو أقل ، ولم يكن في يده أكثر مما أقر ، فالقول قول المضارب عندهم جميعا ; لأنه لا سبيل إلى قبول قول رب المال في إيجاب الضمان على المضارب ، فإن جاء المضارب بثلاثة آلاف درهم فقال : ألف رأس المال ، وألف ربح ، وألف وديعة لآخر ، أو مضاربة لآخر ، أو بضاعة لآخر ، أو شركة لآخر ، أو على ألف دين ، فالقول في الوديعة والشركة والبضاعة والدين قول المضارب في الأقاويل كلها ; لأن من في يده شيء فالظاهر أنه له ، إلا أن يعترف به لغيره ، ولم يعترف لرب المال بهذه الألف ، فكان القول قوله فيها .

وكل من جعلنا القول قوله في هذا الباب فهو مع يمينه ، ومن أقام منهما بينة على ما يدعي من فضل فالبينة بينة كل واحد منهما تثبت زيادة ، فبينة رب المال تثبت زيادة في رأس المال ، وبينة المضارب تثبت زيادة في الربح .

وقال محمد رحمه الله : إذا قال رب المال شرطت لك ثلث الربح وزيادة عشرة دراهم وقال المضارب بل شرطت لي الثلث فالقول قول المضارب ; لأنهما اتفقا على شرط الثلث ، وادعى رب المال زيادة لا منفعة له فيها إلا فساد العقد ، فلا يقبل قوله وإن قامت لهما بينة فالبينة بينة رب المال ; لأنها تثبت زيادة شرط .

ولو قال رب المال : شرطت لك الثلث إلا عشرة .

وقال المضارب : بل شرطت لي الثلث فالقول قول رب المال ; لأنه أقر له ببعض الثلث والمضارب يدعي تمام الثلث ، فلا يقبل قوله في زيادة شرط الربح ، وفي هذا نوع إشكال ، وهو أن المضارب يدعي صحة العقد ، ورب المال يدعي فساده ، فينبغي أن يكون القول قول المضارب والجواب أن دعوى رب المال وإن تعلق به فساد العقد لكنه منكر لزيادة يدعيها المضارب فيعتبر إنكاره ; لأنه مفيد في الجملة .

ولو قال رب المال : شرطت لك نصف الربح وقال المضارب : شرطت لي مائة درهم أو : لم تشترط لي شيئا ، ولي أجر المثل فالقول قول رب المال ; لأن المضارب يدعي أجرا واجبا في ذمة رب المال ، ورب المال ينكر ذلك ، فيكون القول قوله فإن أقام رب المال البينة على شرط النصف ، وأقام المضارب البينة على أنه لم يشترط له شيئا ، فالبينة بينة رب المال ; لأنها مثبتة للشرط وبينة المضارب نافية ، والمثبتة أولى .

ولو أقام المضارب البينة أنه شرط له مائة درهم فبينته أولى ; لأن البينتين استويا في إثبات الشرط وبينة المضارب أوجبت حكما زائدا ، وهو إيجاب الأجر على رب المال ، فكانت أولى وذكر الكرخي رحمه الله أنهم جعلوا حكم المزارعة في هذا الباب حكم المضاربة إلا في هذا الفصل خاصة ، وهو أنه إذا أقام رب الأرض والبذر البينة على أنه شرط للعامل نصف الخارج ، وقال العامل : شرطت لي مائة قفيز فالبينة بينة الدافع ، وفي المضاربة البينة بينة المضارب والفرق بينهما أن المزارعة عقد لازم في جانب العامل ، بدليل أن من لا بذر له من جهته ، لو امتنع من العمل يجبر عليه ، فرجحنا بينة من يدعي الصحة والمضاربة ليست بلازمة ، فإن المضارب لو امتنع من العمل لا يجبر عليه ، فلم يقع الترجيح بالتصحيح ، فرجحنا بإيجاب الضمان وهو الأجر .

ولو قال رب المال : دفعت إليك بضاعة وقال المضارب : مضاربة بالنصف أو : مائة درهم فالقول قول رب المال ; لأن المضارب يستفيد الربح بشرطه ، وهو منكر ، فكان القول قوله أنه لم يشترط ولأن المضارب يدعي استحقاقا في مال الغير ، فالقول قول صاحب المال ولو قال المضارب : أقرضتني المال ، والربح لي وقال رب المال : دفعت إليك مضاربة ، أو : بضاعة فالقول قول رب المال ; لأن المضارب يدعي عليه التمليك ، وهو منكر ، فإن أقاما البينة ، فالبينة بينة المضارب ; لأنها تثبت التمليك ، ولأنه لا تنافي بين البينتين لجواز أن يكون أعطاه بضاعة ، أو مضاربة ، ثم أقرضه ولو قال المضارب : دفعت إلي مضاربة وقال رب المال : أقرضتك فالقول قول المضارب ; لأنهما اتفقا على أن الأخذ كان بإذن رب المال ورب المال يدعي على المضارب الضمان ، وهو ينكر ، فكان القول قوله فإن قامت لهما بينة فالبينة بينة رب المال ; لأنها تثبت أصل الضمان .

ولو جحد المضارب المضاربة أصلا ، ورب المال يدعي دفع المال إليه مضاربة فالقول قول المضارب ; لأن رب المال يدعي عليه قبض ماله ، وهو ينكر ، فكان القول قوله ولو جحد ثم أقر فقد قال ابن سماعة في نوادره : سمعت أبا يوسف قال في رجل دفع إلى رجل مالا مضاربة ثم طلبه منه ، فقال : لم تدفع إلي شيئا ثم قال : بلى أستغفر الله العظيم - قد دفعت إلي ألف درهم مضاربة ضامن للمال ; لأنه أمين ، والأمين إذا جحد الأمانة ضمن كالمودع .

وهذا لأن عقد المضاربة [ ص: 111 ] ليس بعقد لازم ، بل هو عقد جائز محتمل للفسخ ، فكان جحوده فسخا له أو رفعا له ، وإذا ارتفع العقد صار المال مضمونا عليه كالوديعة ، فإن اشترى بها مع الجحود كان مشتريا لنفسه ; لأنه ضامن للمال فلا يبقى حكم المضاربة ; لأن من حكم المضارب أن يكون المال أمانة في يده ، فإذا صار ضمنيا لم يبق أمينا ، فإن أقر بعد الجحود لا يرتفع الضمان ; لأن العقد قد ارتفع بالجحود ، فلا يعود إلا بسبب جديد ، فإن اشترى بها بعد الإقرار فالقياس أن يكون ما اشتراه لنفسه ; لأنه قد ضمن المال بجحوده فلا يبرأ منه بفعله ، وفي الاستحسان يكون ما اشتراه على المضاربة ، ويبرأ من الضمان ; لأن الأمر بالشراء لم يرتفع مع الجحود بل هو قائم مع الجحود ; لأن الضمان لا ينافي الأمر بالشراء ، بدليل أن من غصب من آخر شيئا ، فأمر المغصوب منه الغاصب ببيع المغصوب أو بالشراء به صح الأمر ، وإن كان المغصوب مضمونا على الغاصب .

وإذا بقي الأمر بعد الجحود فإذا اشترى بموجب الأمر وقع الشراء للآمر ، ولن يقع الشراء له إلا بعد انتفاء الضمان ، وصار كالغاصب إذا باع المغصوب بأمر المالك وسلم أنه يبرأ من الضمان كذا هذا ، وقوله : المال صار مضمونا عليه ، فلا يبرأ من الضمان بفعله قلنا : العين المضمونة يجوز أن يبرأ الضامن منها بفعله كالمغصوب منه إذا أمر الغاصب أن يجعل المغصوب في موضع كذا ، أو يسلمه إلى فلان ، إنه يبرأ بذلك من الضمان .

وكذلك رجل دفع إلى رجل ألف درهم ، فأمره أن يشتري بها عبدا فجحده الألف ، ثم أقر بها ، ثم اشترى ، جاز الشراء ، ويكون للآمر وبرئ الجاحد من الضمان ولو اشترى بها عبدا ثم أقر لم يبرأ عن الضمان ، وكان الشراء له لما ذكرنا في المضارب .

ولو دفع إليه ألفا وأمره أن يشتري بها عبدا بعينه ثم جحد الألف ثم اشترى بها العبد ، ثم أقر بالألف فإن العبد للآمر ; لأن الوكيل بشراء العبد بعينه لا يملك أن يشتريه لنفسه ، فتعين أن يكون الشراء للآمر ، فصار كأنه أقر ثم اشترى بخلاف المضارب ; لأنه يملك أن يشتري لنفسه ، فلا يحمل على الشراء لرب المال ، إلا أن يقر بالمال قبل الشراء .

وقال أبو يوسف في المأمور ببيع العبد إذا جحده إياه فادعاه لنفسه ، ثم أقر له به : إن البيع جائز ، وهو بريء من ضمانه .

وكذلك لو دفع إليه عبدا فأمره أن يهبه لفلان فجحده وادعاه لنفسه ، ثم أقر له به فباعه ، إن البيع جائز وهو بريء من ضمانه .

وكذلك إن أمره بعتقه فجحده ، وادعاه لنفسه ثم أقر له به فأعتقه جاز عتقه ، لما ذكرنا أن الأمر بعد الجحود قائم ، فإذا جحد ثم أقر فقد تصرف بأمر رب المال فيبرأ من الضمان ولو باع العبد أو وهبه أو أعتقه ، ثم أقر بذلك بعد البيع قال ابن سماعة : ينبغي في قياس ما إذا دفع إليه ألفا ، وأمره أن يشتري بها عبدا بعينه ، إنه يجوز ويلزم الآمر ; لأنه لا يملك أن يبيع العبد لنفسه .

وقال هشام : سمعت محمدا قال في رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة ، فجاء بألف وخمسمائة ، فقال : هذه الألف رأس المال ، وهذه الخمسمائة ربح وسكت ثم قال : علي دين فيه لفلان كذا كذا قال محمد : القول قول المضارب .

وقال الحسن بن زياد : إذا أقر المضارب أنه عمل بالمال ، وأن في يده عشرة آلاف ، وعلي فيها دين ألف ، أو ألفان فقال ذلك في كلام متصل ، كان القول قوله مع يمينه ، يدفع الدين منه سمى صاحبه ، أو لم يسمه ، وإن سكت سكتة ثم أقر بذلك وسمى صاحبه أو لم يسمه لم يصدق قال : وهذا قياس قول أبي حنيفة وهذا الذي ذكره الحسن يخالف ما قال محمد

( ووجهه ) أنه قال : في يدي عشرة آلاف وسكت فقد أقر بالربح ، فإذا قال : علي دين ألف فقد رجع عما أقر به ; لأن الربح لا يكون إلا بعد قضاء الدين والإقرار إذا صح لا يحتمل الرجوع عنه ، بخلاف ما إذا قال ذلك متصلا ; لأن الإقرار لم يستقر بعد ، وكان بمنزلة الاستثناء .

( وجه ) قول محمد إن أقر بالدين في حال يملك الإقرار به ، فينفذ إقراره كما إذا قال : هذا ربح وعلي دين وقوله : إن قوله علي دين بعد ما سكت ، يكون رجوعا عما أقر به من الربح ، ممنوع فإنه يجوز أنه ربح ثم لزمه الدين ، ألا ترى أن الرجل يقول : قد ربحت ولزمني دين ، وهو يملك الإقرار بالدين ، فإذا أقر به صح ؟ ولو جاء المضارب بألفين ، فقال : ألف رأس المال ، وألف ربح ثم قال : ما أربح إلا خمسمائة ، ثم هلك المال كله في يد المضارب فإن المضارب يضمن الخمسمائة التي جحدها ، ولا ضمان عليه في باقي المال ; لأن الربح أمانة في يده ، فإذا جحده صار غاصبا بالجحود فيضمن إذا هلك ، ولو قال المضارب لرب المال : قد دفعت إليك رأس مالك ، والذي بقي في يدي ربح ثم رجع فقال : لم أدفعه إليك ، ولكن هلك فإنه يضمن ما ادعى دفعه إلى رب المال ; لأنه صار [ ص: 112 ] جاحدا بدعوى الدفع ، فيضمن بالجحود .

وكذلك لو اختلفا في الربح ثم رجع ، فقال : لم أدفعه إليك ولكنه هلك فإنه يضمن ما ادعى دفعه إلى رب المال لما بينا .

ولو اختلفا في الربح ، فقال رب المال : شرطت لك الثلث وقال المضارب : شرطت لي النصف ثم هلك المال في يد المضارب قال محمد : يضمن المضارب السدس من الربح ، يؤديه إلى رب المال من ماله خاصة ، ولا ضمان عليه فيما سوى ذلك ; لأنا قد بينا أن القول في شرط الربح قول رب المال ، وإذا كان كذلك فنصيب المضارب الثلث ، وقد ادعى النصف ، ومن ادعى أمانة في يده ضمنها ، لذلك يضمن سدس الربح والله - عز وجل - الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية