بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما يبطل به عقد المضاربة فعقد المضاربة يبطل بالفسخ ، وبالنهي عن التصرف ، لكن عند وجود شرط الفسخ والنهي وهو علم صاحبه بالفسخ والنهي ، وأن يكون رأس المال عينا وقت الفسخ والنهي ، فإن كان متاعا لم يصح ، وله أن يبيعه بالدراهم والدنانير حتى ينض كما ذكرنا فيما تقدم وإن كان عينا صح لكن له صرف الدراهم إلى الدنانير ، والدنانير إلى الدراهم بالبيع ، لما ذكرنا أن ذلك لا يعد بيعا لتجانسهما في معنى الثمنية ، وتبطل بموت أحدهما ; لأن المضاربة تشتمل على الوكالة ، والوكالة تبطل بموت الموكل والوكيل وسواء علم المضارب بموت رب المال أو لم يعلم لأنه عزل حكمي فلا يقف على العلم كما في الوكالة ، إلا أن رأس المال إذا صار متاعا ، فللوكيل أن يبيع حتى يصير ناضا لما بينا ، وتبطل بجنون أحدهما إذا كان مطبقا ; لأنه يبطل أهلية الأمر للآمر ، وأهلية التصرف للمأمور ، وكل ما تبطل به الوكالة تبطل به المضاربة ، وقد تقدم في كتاب الوكالة تفصيله .

ولو ارتد رب المال فباع المضارب واشترى بالمال بعد الردة ، فذلك كله موقوف في قول أبي حنيفة عليه الرحمة إن رجع إلى الإسلام بعد ذلك نفذ كله ، والتحقت ردته بالعدم في جميع أحكام المضاربة وصار كأنه لم يرتد أصلا ، وكذلك إن لحق بدار الحرب ، ثم عاد مسلما قبل أن يحكم بلحاقه بدار الحرب ، على الرواية التي يشترط حكم الحاكم بلحاقه للحكم بموته وصيرورة أمواله ميراثا لورثته .

فإن مات أو قتل على الردة ، أو لحق بدار الحرب ، وقضى القاضي بلحاقه بطلت المضاربة من يوم ارتد على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة أن ملك المرتد موقوف إن مات أو قتل ، أو لحق فحكم باللحوق ، يزول ملكه من وقت الردة إلى ورثته ، ويصير كأنه مات في ذلك الوقت ، فيبطل تصرف المضارب بأمره لبطلان أهلية الآمر ، ويصير كأنه تصرف في ملك الورثة ، فإن كان رأس المال يومئذ قائما في يده لم يتصرف فيه ثم اشترى بعد ذلك ، فالمشترى وربحه يكون له ; لأنه زال ملك رب المال عن المال فينعزل المضارب عن المضاربة ، فصار متصرفا في ملك الورثة بغير أمرهم ، وإن كان صار رأس المال متاعا فبيع المضارب فيه وشراؤه جائز ، حتى ينض رأس المال لما ذكرنا في هذه الحالة ، لا ينعزل بالعزل والنهي ، ولا بموت رب المال ، فكذلك ردته ، فإن حصل في يد المضارب دنانير ورأس المال دراهم ، أو حصل في يده دراهم ورأس المال دنانير ، فالقياس أن لا يجوز له التصرف ; لأن الذي حصل في يده من جنس رأس المال معنى لاتحادهما في الثمنية فيصير كأن عين المال قائم في يده إلا أنهم استحسنوا فقالوا إن باع بجنس رأس المال جاز ; لأن على المضارب أن يرد مثل رأس المال ، فكان له أن يبيع ما في يده كالعروض .

وأما على أصل أبي يوسف ومحمد فالردة لا تقدح في ملك المرتد ، فيجوز تصرف المضارب بعد ردة رب المال ، كما يجوز تصرف رب المال بنفسه عندهما ، فإن مات رب المال أو قتل كان موته كموت المسلم في بطلان عقد المضاربة ، وكذلك إن لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه ; لأن ذلك بمنزلة الموت ، بدليل أن ماله يصير ميراثا لورثته ، فبطل أمره في المال ، فإن لم يرتد رب المال ولكن المضارب ارتد ، فالمضاربة على حالها في قولهم جميعا ; لأن وقوف تصرف رب المال بنفسه لوقوف ملكه ، ولا ملك للمضارب فيما يتصرف فيه ، بل الملك لرب المال ، ولم توجد منه الردة ، فبقيت المضاربة إلا أنه لا عهدة على المضارب ، وإنما العهدة على رب المال في قياس قول أبي حنيفة - رحمه الله ; لأن العهدة تلزم بسبب المال فتكون على رب المال ، وصار كما لو وكل صبيا محجورا أو عبدا محجورا ، فأما على قولهما فالعهدة عليه ; لأن تصرفه كتصرف المسلم .

وإن مات المضارب أو قتل على الردة بطلت المضاربة ; لأن موته في الردة كموته قبل الردة ، وكذا إذا لحق بدار الحرب وقضي بلحوقه ; لأن ردته مع اللحاق ، والحكم به بمنزلة موته في بطلان تصرفه ، فإن لحق المضارب [ ص: 113 ] بدار الحرب بعد ردته فباع واشترى هناك ، ثم رجع مسلما ، فجميع ما اشترى وباع في دار الحرب يكون له ، ولا ضمان عليه في شيء من ذلك ; لأنه لما لحق بدار الحرب صار كالحربي إذا استولى على مال إنسان ، ولحق بدار الحرب ، إنه يملكه ، فكذا المرتد ، وأما ارتداد المرأة أو عدم ارتدادها سواء في قولهم جميعا ، سواء كان المال لها أو كانت مضاربة ; لأن ردتها لا تؤثر في ملكها ، إلا أن تموت ، فتبطل المضاربة كما لو ماتت قبل الردة ، أو لحقت بدار الحرب ، وحكم بلحاقها ، لما ذكرنا أن ذلك بمنزلة الموت ، وتبطل بهلاك مال المضاربة في يد المضارب قبل أن يشتري به شيئا في قول أصحابنا ; لأنه تعين لعقد المضاربة بالقبض فيبطل العقد بهلاكه كالوديعة ، وكذلك لو استهلكه المضارب أو أنفقه أو دفعه إلى غيره ، فاستهلكه لما قلنا حتى لا يملك أن يشتري به شيئا للمضاربة به ، فإن أخذ مثله من الذي استهلكه ، كان له أن يشتري به على المضاربة ، كذا روى الحسن عن أبي حنيفة ; لأنه أخذ عوض رأس المال ، فكان أخذ عوضه بمنزلة أخذ ثمنه ، فيكون على المضاربة .

وروى ابن رستم عن محمد أنه لو أقرضها المضارب رجلا ، فإن رجع إليه الدراهم بعينها ، رجعت على المضاربة ; لأنه وإن تعدى يضمن لكن زال التعدي فيزول الضمان المتعلق به ، وإن أخذ مثلها لم يرجع في المضاربة ; لأن الضمان قد استقر بهلاك العين ، وحكم المضاربة مع الضمان لا يجتمعان .

ولهذا يخالف ما رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في الاستهلاك ، هذا إذا هلك مال المضاربة قبل أن يشتري المضارب شيئا ، فإن هلك بعد الشراء بأن كان مال المضاربة ألفا ، فاشترى بها جارية ولم ينقد الثمن البائع حتى هلكت الألف ، فقد قال أصحابنا : الجارية على المضاربة ويرجع على رب المال بالألف ، فيسلمها إلى البائع ، وكذلك إن هلكت الثانية التي قبض يرجع بمثلها على رب المال ، وكذلك سبيل الثالثة والرابعة ، وما بعد ذلك أبدا حتى يسلم إلى البائع ، ويكون ما دفعه أولا رب المال ، وما غرم كله من رأس المال ، وإنما كان كذلك لأن المضارب متصرف لرب المال ، فيرجع بما لحقه من الضمان بتصرفه كالوكيل .

غير أن الفرق بين الوكيل والمضارب أن الوكيل إذا هلك الثمن في يده فرجع بمثله إلى الموكل ، ثم هلك الثاني لم يرجع على الموكل ، والمضارب يرجع في كل مرة ، ووجه الفرق أن الوكالة قد انتهت بشراء الوكيل ; لأن المقصود من الوكالة بالشراء استفادة ملك المبيع لا الربح ، فإذا اشترى فقد حصل المقصود فانتهى عقد الوكالة بانتهائه ، ووجب على الوكيل الثمن للبائع ، فإذا هلك في يده قبل أن ينقده البائع ، وجب للوكيل على الموكل مثل ما وجب للبائع عليه ، فإذا قبضه مرة فقد استوفى حقه ، فلا يجب له عليه شيء آخر فأما المضاربة فإنها لا تنتهي بالشراء ; لأن المقصود منها الربح ، ولا يحصل إلا بالبيع والشراء مرة بعد أخرى ، فإذا بقي العقد فكان له أن يرجع ثانيا وثالثا ، وما غرم رب المال مع الأول يصير كله رأس المال ; لأنه غرم لرب المال بسبب المضاربة ، فيكون كله من مال المضاربة ، ولأن المقصود من هذا العقد هو الربح فلو لم يصر ما غرم رب المال من رأس المال ويهلك مجانا ، يتضرر به رب المال ; لأنه يخسر ويربح المضارب ، وهذا لا يجوز .

ولو قبض المضارب الألف الأولى فتصرف فيها حتى صارت ألفين ، ثم اشترى بها جارية قيمتها ألفان ، فهلكت الألفان قبل أن ينقدها البائع ، فإنه يرجع على رب المال بألف وخمسمائة ، ويغرم المضارب من ماله خمسمائة ، وهي حصته من الربح ، فيكون ربع الجارية للمضارب خاصة ، وثلاثة أرباعها على المضاربة ، ورأس المال في هذه الثلاثة الأرباع ألفان وخمسمائة .

وإنما كان كذلك ; لأنه لما اشترى الجارية بألفين فقد اشتراها أرباعا ، ربعها للمضارب وثلاثة أرباعها لرب المال ; لأنه اشتراها بعد ما ظهر ملك المضارب في الربح ; لأنه اشتراها بألفين ، ورأس المال ألف - فحصة رب المال من الربح خمسمائة ، وحصة المضارب خمسمائة ، فما اشتراه لرب المال رجع عليه ، وما اشتراه لنفسه فضمانه عليه ، وإنما خرج ربح الجارية من المضاربة ; لأن القاضي لما ألزمه ضمان حصته من الربح فقد عينه ، ولا يتعين إلا بالقيمة ، فخرج الربح من المضاربة وبقي الباقي على ما كان عليه ، وقد لزم رب المال ألف وخمسمائة بسبب المضاربة ، فصار ذلك زيادة في رأس المال ، فصار رأس المال ألفين وخمسمائة ، فإن بيعت هذه الجارية بأربعة آلاف ، منها للمضارب ألف ; لأن ذلك حصته من الربح ، فكان ملكه ، وبقي ثلاثة آلاف على المضاربة ، لرب المال منها ألفان ، وخمسمائة رأس ماله ، يبقى ربح خمسمائة ، [ ص: 114 ] فيكون بينهما نصفين على الشرط .

ولو كانت الجارية تساوي ألفين ، والشراء بألف ، وهي مال المضاربة ، فضاعت ، غرمها رب المال كلها ; لأن الشراء إذا وقع بألف فقد وقع بثمن ، كله رأس المال ، وإنما يظهر الربح في الثاني ، فيكون الضمان على رب المال ، بخلاف الفصل الأول فإن هناك الشراء وقع بألفين فظهر ربح المضارب ، وهلك ربع الجارية ، فيغرم حصة ذلك الربع من الثمن وروي عن محمد في المضارب إذا اشترى جارية بألفي درهم ، ألف ربح ، وقيمتها ألف ، فضاعت الألفان قبل أن ينقدها البائع ، إنه على أن على المضارب الربع ، وهو خمسمائة ، وعلى رب المال ألف وخمسمائة ، وهذا على ما بينا .

قال محمد : ولو اشترى جارية تساوي ألفين ، بأمة تساوي ألفا ، وقبض التي اشتراها ، ولم يدفع أمته حتى ماتتا جميعا في يده، فإنه يغرم قيمة التي اشترى ، وهي ألف ، يرجع بذلك على رب المال ; لأن المضمون عليه قيمة الجارية التي اشتراها ، ولا فضل في ذلك عن رأس المال ، وهذا إنما يجوز ، وهو أن يشتري المضارب جارية قيمتها ألف بألفين ، إذا كان رب المال قال له : اشتر بالقليل والكثير ، وإلا فشراء المضارب على هذا الوجه لا يصح في قولهم جميعا ، وذكر ابن سماعة عن محمد في موضع آخر في نوادره ، في رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف ، فاشترى المضارب وباع حتى صار المال ثلاثة آلاف ، فاشترى بثلاثة آلاف ثلاثة أعبد ، قيمة كل واحد ألف ، ولم ينقد المال حتى ضاع قال : يغرم ذلك كله على رب المال ، ويكون رأس المال أربعة آلاف ; لأن المضارب لم يتعين له ملك في واحد من العبيد ; لأن كل واحد منهم يجوز أن يكون رأس المال ، لهذا لا ينفذ عتقه فيهم ، فيرجع بجميع ثمنهم .

وقد علل محمد لهذا فقال من قبل : إن المضارب لم يكن يجوز عتقه في شيء من العبيد ، وهذا يخالف ما ذكره الكرخي ، فإنه قال : إن محمدا يعتبر المضمون على المضارب الذي يغرمه دون ما وجب عليه من الثمن ، ومعنى هذا الكلام أن المضارب إذا قبض ولم ينقد الثمن حتى هلك ، كان المعتبر ما يجب عليه ضمانه ، فإن كان ما يضمنه زائدا على رأس المال ، كان على المضارب حصة ذلك ، وإلا فلا ، وهذا بخلاف الأول ; لأنا إذا اعتبرنا الضمان فقد ضمن أكثر من رأس المال ، فإما أن يجعل عن محمد روايتان ، أو يكون الشرط فيما صار مضمونا على المضارب أن يتعين حقه فيه ، وهنا وإن ضمن فإنه لم يتعين حقه فيه ، وأما تعليله بعدم نفاذ العتق فلا يطرد ; لأنه لو اشترى بالألفين جارية تساوي ألفا ، يضمن وإن لم ينفذ عتقه فيه ، إلا أن يكون جعل نفوذ العتق في الجارية المشتراة بألفين ، وقيمتها ألفان عليه ; لوجوب الضمان عليه ، فما لا ينفذ عتقه فيه ، يكون عكس العلة ، فلا يلزمه طرده في جميع المواضع .

وقال محمد إذا اشترى المضارب عبدا بألف درهم ، وهي مال المضاربة ، ففقد المال ، فقال رب المال : اشتريته على المضاربة ، ثم ضاع المال وقال المضارب : اشتريته بعد ما ضاع ، وأنا أرى أن المال عندي فإذا قد ضاع قبل ذلك فالقول قول المضارب ; لأن الأصل في كل من يشتري شيئا أنه يعتبر مشتريا لنفسه ، ولأن الحال يشهد به أيضا ، وهو هلاك المال ، فكان الظاهر شاهدا للمضارب ، فكان القول قوله ، وذكر محمد في المضاربة الكبيرة إذا اختلفا ، وقال رب المال : ضاع قبل أن تشتري الجارية ، وإنما اشتريتها لنفسك ، وقال المضارب : ضاع المال بعد ما اشتريتها ، وأنا أريد أن آخذك بالثمن ، ولا أعلم متى ضاع فالقول قول رب المال مع يمينه ، وعلى المضارب البينة ، أنه اشترى والمال عنده إنما ضاع بعد الشراء ; لأن رب المال ينفي الضمان عن نفسه ، والمضارب يدعي عليه الضمان ; ليرجع عليه بالثمن ; لأنه يدعي وقوع العقد له ، ورب المال ينكر ذلك ، فكان القول قوله ، ولأن الحال وهو الهلاك شهد لرب المال ، فإن أقاما البينة فالبينة بينة المضارب ; لأنها تثبت الضمان فكانت أولى .

وإذا انفسخت المضاربة ، ومال المضاربة ديون على الناس ، وامتنع عن التقاضي والقبض ، فإن كان في المال ربح أجبر على التقاضي والقبض ، وإن لم يكن فيه ربح لم يجبر عليهما ، وقيل له : أحل رب المال بالمال على الغرماء ; لأنه إذا كان هناك ربح كان له فيه نصيب ، فيكون عمله عمل الأجير ، والأجير مجبور على العمل فيما التزم ، وإن لم يكن هناك ربح لم تسلم له منفعة ، فكان عمله عمل الوكلاء فلا يجبر على إتمام العمل ، كما لا يجبر الوكيل على قبض الثمن ، غير أنه يؤمر المضارب أو الوكيل أن يحيل رب المال على الذي عليه الدين حتى يمكنه قبضه ; لأن حقوق العقد راجعة إلى العاقد ، فلا يثبت ولاية القبض للآمر إلا بالحوالة من العاقد ، فيلزمه أن يحيله بالمال حتى لا يتوى حقه .

ولو ضمن العاقد [ ص: 115 ] لرب المال هذا الدين الذي عليه ، لم يجز ضمانه ; لأن العاقد قد جعله أمينا فلا يملك أن يجعل نفسه ضمينا فيما جعله العاقد أمينا .

ولو مات المضارب ولم يوجد مال المضاربة فيما خلف ، فإنه يعود دينا فيما خلف المضارب ، وكذا المودع والمستعير والمستبضع وكل من كان المال في يده أمانة ، إذا مات قبل البيان ولا تعرف الأمانة بعينها ، فإنه يكون عليه دينا في تركته ; لأنه صار بالتجهيل مستهلكا للوديعة ، ولا تصدق ورثته على الهلاك والتسليم إلى رب المال .

ولو عين الميت المال في حال حياته ، أو علم ذلك ، يكون ذلك أمانة في وصية ، أو في يد وارثه ، كما كان في يده ، ويصدقون على الهلاك والدفع إلى صاحبه ، كما يصدق الميت في حال حياته والله - عز وجل - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية