بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان من يجب عليه سجود السهو ومن لا يجب عليه فسجود السهو ، يجب على الإمام وعلى المنفرد مقصودا لتحقق سبب الوجوب منهما وهو السهو ، فأما المقتدي إذا سها في صلاته فلا سهو عليه ; لأنه لا يمكنه السجود ; لأنه إن سجد قبل السلام كان مخالفا للإمام ، وإن أخره إلى ما بعد سلام الإمام يخرج من الصلاة بسلام الإمام ; لأنه سلام عمد ممن لا سهو عليه ، فكان سهوه فيما يرجع إلى السجود ملحقا بالعدم لتعذر السجود عليه ، فسقط السجود عنه أصلا ، وكذلك اللاحق وهو المدرك لأول صلاة الإمام إذا فاته بعضها بعد الشروع بسبب النوم أو الحدث السابق ، بأن نام خلف الإمام ثم انتبه وقد سبقه الإمام بركعة أو فرغ من صلاته ، أو سبقه الحدث فذهب وتوضأ وقد سبقه الإمام بشيء من صلاته أو فرغ عنها - فاشتغل بقضاء ما سبق به فسها فيه - لا سهو عليه ; لأنه في حكم المصلي خلف الإمام ، ألا ترى أنه لا قراءة عليه .

وأما المسبوق إذا سها فيما يقضي وجب عليه السهو ; لأنه فيما يقضي بمنزلة المنفرد ، ألا ترى أنه يفترض عليه القراءة ؟ .

وأما المقيم إذا اقتدى بالمسافر ثم قام إلى إتمام صلاته وسها هل يلزمه سجود السهو ؟ ذكر في الأصل وقال : إنه يتابع الإمام في سجود السهو وإذا سها فيما يتم فعليه سجود السهو أيضا ، وذكر الكرخي في مختصره أنه كاللاحق لا يتابع الإمام في سجود السهو وإذا سها فيما يتم لا يلزمه سجود السهو ; لأنه مدرك لأول الصلاة فكان في حكم المقتدي فيما يؤديه بتلك التحريمة كاللاحق ، ولهذا لا يقرأ كاللاحق ، والصحيح ما ذكر في الأصل ; لأنه ما اقتدى بإمامه إلا بقدر صلاة الإمام ، فإذا انقضت صلاة الإمام صار منفردا فيما وراء ذلك ، وإنما لا يقرأ فيما يتم ; لأن القراءة فرض في الأوليين ، وقد قرأ الإمام فيهما فكانت قراءة له ، وسهو الإمام يوجب السجود عليه وعلى المقتدي ; لأن متابعة الإمام واجبة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : { تابع إمامك على أي حال وجدته } ولأن المقتدي تابع للإمام ، والحكم في التبع ثبت بوجود السبب في الأصل فكان سهو الإمام سببا لوجوب السهو عليه وعلى المقتدي ، ولهذا لو سقط عن الإمام بسبب من الأسباب بأن تكلم أو أحدث متعمدا أو خرج من المسجد يسقط عن المقتدي ، وكذلك اللاحق يسجد لسهو الإمام إذا سها في حال نوم اللاحق ، أو ذهابه إلى الوضوء ; لأنه في حكم المصلي خلفه ، ولكن لا يتابع الإمام في سجود السهو إذا انتبه في حال اشتغال الإمام بسجود السهو ، أو جاء إليه من الوضوء في هذه الحالة ، بل يبدأ بقضاء ما فاته ثم يسجد في آخر صلاته ، بخلاف المسبوق أو المقيم خلف المسافر حيث تابع الإمام في سجود السهو ثم يشتغل بالإتمام .

( والفرق ) أن اللاحق التزم متابعة الإمام فيما اقتدى به على نحو ما فصل الإمام ، وأنه اقتدى به في حق جميع الصلاة فيتابعه في جميعها على نحو ما يؤدي الإمام ، والإمام أدى الأول فالأول وسجد لسهوه في آخر صلاته فكذا هو ، فأما المسبوق فقد التزم بالاقتداء به متابعته بقدر ما هو صلاة الإمام وقد أدرك هذا القدر فيتابعه فيه ثم ينفرد ، وكذا المقيم المقتدي بالمسافر .

ولو سجد اللاحق مع الإمام للسهو تابعه فيه لم يجزه ; لأنه سجد قبل أوانه في حقه فلم يقع معتدا به ، فعليه أن يعيد إذا فرغ من قضاء ما عليه ، ولكن لا تفسد صلاته ; لأنه ما زاد إلا سجدتين بخلاف المسبوق إذا تابع الإمام في سجود السهو ثم تبين أنه لم يكن على الإمام سهو - حيث تفسد صلاة المسبوق إذا تابع الإمام وما زاد إلا سجدتين ; لأن من الفقهاء من قال : لا تفسد صلاة المسبوق على ما نذكره ، ثم الفرق أن فساد الصلاة هناك ليس لزيادة السجدتين بل للاقتداء في موضع كان عليه الانفراد في ذلك الموضع ، ولم يوجد ههنا ; لأن اللاحق مقتد في جميع ما يؤدي ، فلهذا لم تفسد صلاته ، وكذلك المسبوق يسجد [ ص: 176 ] لسهو الإمام سواء كان سهوه بعد الاقتداء به أو قبله بأن كان مسبوقا بركعة وقد سها الإمام فيها وعن إبراهيم النخعي أنه لا يسجد لسهوه أصلا ; لأن محل السهو بعد السلام وأنه لا يتابعه في السلام ، فلا يتصور المتابعة في السهو .

( ولنا ) أن سجود السهو يؤدى في تحريمة الصلاة فكانت الصلاة باقية ، وإذا بقيت الصلاة بقيت التبعية فيتابعه فيما يؤدي من الأفعال ، بخلاف التكبير ، والتلبية حتى لا يلبي المسبوق ، ولا يكبر مع الإمام في أيام التشريق ; لأن التكبير والتلبية لا يؤديان في تحريمة الصلاة ، ألا ترى أنه لو ضحك قهقهة في تلك الحالة لا تنتقض طهارته .

ولو اقتدى به إنسان لا يصح ؟ بخلاف سجدتي السهو فإنهما يؤديان في تحريمة الصلاة بخلاف انتقاض الطهارة بالقهقهة ، وصح الاقتداء به في تلك الحالة .

( فإن ) قيل : ينبغي أن لا يسجد المسبوق مع الإمام ; لأنه ربما يسهو فيما يقضي فيلزمه السجود أيضا فيؤدي إلى التكرار ، وإنه غير مشروع ; ولأنه لو تابعه في السجود يقع سجوده في وسط الصلاة وذا غير صواب - ( فالجواب ) أن التكرار في صلاة واحدة غير مشروع ، وهما صلاتان حكما وإن كانت التحريمة واحدة ; لأن المسبوق فيما يقضي كالمنفرد ، ونظيره المقيم إذا اقتدى بالمسافر فسها الإمام يتابعه المقيم في السهو ، وإن كان المقتدي ربما يسهو في إتمام صلاته ، وعلى تقدير السهو يسجد في أصح الروايتين على ما مر ، لكن لما كان منفردا في ذلك كانا صلاتين حكما وإن كانت التحريمة واحدة كذا ههنا ، ثم المسبوق إنما يتابع الإمام في السهو دون السلام ، بل ينتظر الإمام حتى يسلم فيسجد فيتابعه في سجود السهو لا في سلامه .

وإن سلم فإن كان عامدا تفسد صلاته ، وإن كان ساهيا لا تفسد ، ولا سهو عليه ; لأنه مقتد ، وسهو المقتدي باطل ، فإذا سجد الإمام للسهو يتابعه في السجود ويتابعه في التشهد ، ولا يسلم إذا سلم الإمام ; لأن هذا السلام للخروج عن الصلاة وقد بقي عليه أركان الصلاة فإذا سلم مع الإمام فإن كان ذاكرا لما عليه من القضاء فسدت صلاته ; لأنه سلام عمد ، وإن لم يكن ذاكرا له لا تفسد ; لأنه سلام سهو فلم يخرجه عن الصلاة .

وهل يلزمه سجود السهو لأجل سلامه ؟ ينظر إن سلم قبل تسليم الإمام أو سلما معا لا يلزمه ; لأن سهوه سهو المقتدي ، وسهو المقتدي متعطل ، وإن سلم بعد تسليم الإمام لزمه ; لأن سهوه سهو المنفرد فيقضي ما فاته ثم يسجد للسهو في آخر صلاته .

ولو سها الإمام في صلاة الخوف سجد للسهو وتابعه فيهما الطائفة الثانية .

وأما الطائفة الأولى فإنما يسجدون بعد الفراغ من الإتمام ; لأن الطائفة الثانية بمنزلة المسبوقين ، إذ لم يدركوا مع الإمام أول الصلاة ، والطائفة الأولى بمنزلة اللاحقين لإدراكهم أول صلاة الإمام .

ولو قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به ولم يتابع الإمام في السهو - سجد في آخر صلاته استحسانا ، والقياس أن يسقط ; لأنه منفرد فيما يقضى ، وصلاة المنفرد غير صلاة المقتدي فصار كمن لزمته السجدة في صلاة فلم يسجد حتى خرج منها ودخل في صلاة أخرى ، لا يسجد في الثانية بل يسقط كذا هذا .

وجه الاستحسان : أن التحريمة متحدة ، فإن المسبوق يبني ما يقضى على تلك التحريمة ، فجعل الكل كأنها صلاة واحدة لاتحاد التحريمة ، وإذا كان الكل صلاة واحدة وقد تمكن فيها النقصان بسهو الإمام ، ولم يجبر ذلك بالسجدتين فوجب جبره ، وقد خرج الجواب عن وجه القياس أنه منفرد في القضاء ; لأنا نقول : نعم في الأفعال ، أما هو مقتد في التحريمة ، ألا ترى أنه لا يصح اقتداء غيره ؟ فجعل كأنه خلف الإمام في حق التحريمة .

ولو سها فيما يقضي ولم يسجد لسهو الإمام كفاه سجدتان لسهوه ولما عليه من قبل الإمام ; لأن تكرار السهو في صلاة واحدة غير مشروع ولو سجد لسهو الإمام ثم سها فيما يقضي فعليه السهو لما مر أن ذلك إذا سهوان في صلاتين حكما ، فلم يكن تكرارا .

ولو أدرك الإمام بعد ما سلم للسهو فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه : أما إن أدركه قبل السجود ، أو في حال السجود ، أو بعد ما فرغ من السجود فإن أدركه قبل السجود أو في حال السجود يتابعه في السجود ; لأنه بالاقتداء التزم متابعة الإمام فيما أدرك من صلاته ، وسجود السهو من أفعال صلاة الإمام فيتابعه فيه ، وليس عليه قضاء السجدة الأولى إذا أدركه في الثانية ; لأن المسبوق لم يوجد منه السهو .

وإنما يجب عليه السجود لسهو الإمام لتمكن النقص في تحريمة الإمام ، وحين دخل في صلاة الإمام كان النقصان بقدر ما يرتفع بسجدة واحدة ، وهو قد أتى بسجدة واحدة فانجبر النقص فلا يجب عليه شيء آخر ، بخلاف ما إذا اقتدى به قبل أن يسجد شيئا ، ثم لم يتابع إمامه وقام وأتم صلاته حيث يسجد السجدتين استحسانا ; لأن [ ص: 177 ] هناك اقتدى بالإمام وتحريمته ناقصة نقصانا لا ينجبر إلا بسجدتين ، وبقي النقصان لانعدام الجابر فيأتي به في آخر الصلاة لاتحاد التحريمة على ما مر .

وإن أدركه بعد ما فرغ من السجود صح اقتداؤه به ، وليس عليه السهو بعد فراغه من صلاة نفسه لما ذكرنا أن وجوب السجود على المسبوق بسبب سهو الإمام لتمكن النقص في تحريمة الإمام ، وحين دخل في صلاة الإمام كان النقص انجبر بالسجدتين ، ولا يعقل وجود الجابر من غير نقص والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية