بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( رجل ) صلى الظهر خمسا ثم تذكر فهذا لا يخلو أما إن قعد في الرابعة قدر التشهد أو لم يقعد ، وكل وجه على وجهين : إما أن قيد الخامسة بالسجدة أو لم يقيد فإن قعد في الرابعة قدر التشهد وقام إلى الخامسة فإن لم يقيدها بالسجدة حتى تذكر - يعود إلى القعدة ويتمها ويسلم لما مر .

وإن قيدها بالسجدة لا يعود عندنا خلافا للشافعي على ما مر ثم عندنا إذا كان ذلك في الظهر أو في العشاء فالأولى أن يضيف إليها ركعة أخرى ليصيرا له نفلا ، إذ التنفل بعدهما جائز ، وما دون الركعتين لا يكون صلاة تامة ، كما قال ابن مسعود : والله ما أجزأت ركعة قط .

وإن كان في العصر لا يضيف إليها ركعة أخرى بل يقطع ; لأن التنفل بعد العصر غير مشروع ، وروى هشام عن محمد أنه يضيف إليها أخرى أيضا ; لأن التنفل بعد العصر إنما يكره إذا شرع فيه قصدا ، فأما إذا وقع فيه بغير قصده فلا يكره ، وإن لم يضف إليها ركعة أخرى في الظهر بل قطعها لا قضاء عليه عندنا ، وعند زفر يقضي ركعتين .

وهي مسألة الشروع في الصلاة المظنونة والصوم المظنون ; لأن الشروع ههنا في الخامسة على ظن أنها عليه ، وإن أضاف إليها أخرى في الظهر هل تجزئ هاتان الركعتان عن السنة التي بعد الظهر ؟ قال بعضهم : يجزيان ; لأن السنة بعد الظهر ليست إلا ركعتين يؤديان نفلا وقد وجد ، والصحيح أنهما لا يجزيان عنها ; لأن السنة أن يتنفل بركعتين بتحريمة على حدة لا بناء على تحريمة غيرها ، فلم يوجد هيئة السنة فلا تنوب عنها ، وبه كان يفتي الشيخ أبو عبد الله الجراجري ثم إذا أضاف إليها ركعة [ ص: 179 ] أخرى فعليه السهو استحسانا ، والقياس أن لا سهو عليه ; لأن السهو تمكن في الفرض وقد أدى بعدها صلاة أخرى .

( وجه ) الاستحسان أنه إنما بنى النفل على تلك التحريمة وقد تمكن فيها النقص بالسهو فيجبر بالسجدتين على ما ذكرنا في المسبوق .

( ثم ) اختلف أصحابنا أن هاتين السجدتين للنقص المتمكن في الفرض أو للنقص المتمكن في النفل ، فعند أبي يوسف للنقص المتمكن في النفل لدخوله فيه لا على وجه السنة ، وعند محمد للنقص الذي تمكن في الفرض فالحاصل أن عند أبي يوسف انقطعت تحريمة الفرض بالانتقال إلى النفل ، فلا وجه إلى جبر نقصان الفرض بعد الخروج منه وانقطاع تحريمته ، وعند محمد التحريمة باقية ; لأنها اشتملت على أصل الصلاة ووصفها ، وبالانتقال إلى النفل انقطع الوصف لا غير فبقيت التحريمة ، ألا ترى أن بناء النفل على تحريمة الفرض جائز في حق الاقتداء حتى جاز اقتداء المتنفل بالمفترض ؟ فكذا بناء فعل نفسه على تحريمة فرضه يكون جائزا ، والأصل في البناء هو البناء في إحرام واحد .

وفائدة هذا الخلاف أنه لو جاء إنسان واقتدى به في هاتين الركعتين يصلي ركعتين عند أبي يوسف ولو أفسده يلزمه قضاء ركعتين ، وإن كان الإمام لو أفسده لا قضاء عليه عند أصحابنا الثلاثة ، ومن هذا صحح مشايخ بلخ اقتداء البالغين بالصبيان في التطوعات فقالوا : يجوز أن تكون الصلاة مضمونة في حق المقتدي وإن لم تكن مضمونة في حق الإمام ، استدلالا بهذه المسألة ، ومشايخنا بما وراء النهر لم يجوزوا ذلك ، وعند محمد يصلي ستا ولو أفسدها لا يجب عليه القضاء كما لا يجب على الإمام ، وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي أن الأصح أن تجعل السجدتان جبرا للنقص المتمكن في الإحرام ، وهو إحرام واحد ، فينجبر بهما النقص المتمكن في الفرض والنفل جميعا ، وإليه ذهب الشيخ أبو بكر بن أبي سعيد ، هذا الذي ذكرنا إذا قعد في الرابعة قدر التشهد فأما إذا لم يقعد وقام إلى الخامسة فإن لم يقيدها بالسجدة يعود لما مر ، وإن قيد فسد فرضه ، وعند الشافعي لا يفسد ، ويعود إلى القعدة ويخرج عن الفرض بلفظ السلام بعد ذلك ، وصلاته تامة بناء على أصله الذي ذكرنا أن الركعة الكاملة في احتمال النقص وما دونها سواء ، فكان كما لو تذكر قبل أن يقيد الخامسة بسجدة وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا ولم ينقل أنه كان قعد في الرابعة ولا أنه أعاد صلاته .

( ولنا ) ما ذكرنا أنه وجد فعل كامل من أفعال الصلاة ، وقد انعقد نفلا فصار خارجا من الفرض ضرورة حصوله في النفل لاستحالة كونه فيهما ، وقد بقي عليه فرض وهو القعدة الأخيرة ، والخروج عن الصلاة مع بقاء فرض من فرائضها يوجب فساد الصلاة .

وأما الحديث فتأويله أنه كان قعد في الرابعة ، ألا ترى أن الراوي قال : صلى الظهر والظهر اسم لجميع أركانها ، ومنها القعدة وهذا هو الظاهر أنه قام إلى الخامسة على تقدير أن هذه القعدة الأولى ; لأن هذا أقرب إلى الصواب فيحمل فعله عليه . والله أعلم

ثم الفساد عند أبي يوسف بوضع رأسه بالسجدة ، وعند محمد برفع رأسه عنها ، حتى لو سبقه الحدث في هذه الحالة لا تفسد صلاته عند محمد ، وعليه أن ينصرف ، ويتوضأ ، ويعود ، ويتشهد ، ويسلم ، ويسجد سجدتي السهو ; لأن السجدة لا تصح مع الحدث فكأنه لم يسجد ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف فسدت صلاته بنفس الوضع فلا يعود ، ثم الذي يفسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف الفرضية لا أصل الصلاة ، حتى كان الأولى أن يضيف إليها ركعة أخرى فتصير الست له نفلا ، ثم يسلم ثم يستقبل الظهر .

وعند محمد يفسد أصل الصلاة بناء على أن أصل الفرضية متى بطلت بطلت التحريمة عنده ، وعندهما لا تبطل ، وهذا الخلاف غير منصوص عليه وإنما استخرج من مسألة ذكرها في الأصل في باب الجمعة ، وهو أن مصلي الجمعة إذا خرج وقتها وهو وقت الظهر قبل إتمام الجمعة ثم قهقه - تنتقض طهارته عندهما ، وعنده لا تنتقض ، وهذا يدل على أنه بقي نفلا عندهما خلافا له ، وكذا ترك القعدة في كل شفع من التطوع عنده مفسد ، وعندهما غير مفسد ، وهذه مسألة عظيمة لها شعب كثيرة أعرضنا عن ذكر تفاصيلها وجملها ومعاني الفصول وعللها حالة إلى الجامع الصغير ، وإنما أفردنا هذه المسألة بالذكر وإن كان بعض فروعها دخل في بعض ما ذكرنا من الأقسام ، لما أن لها فروعا أخر لا تناسب مسائل الفصل ، وكرهنا قطع الفرع عن الأصل ، فرأينا الصواب في إيرادها بفروعها في آخر الفصل تتميما للفائدة والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية