بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
وكذلك ليس للعدل أن يبيع الرهن ، كما ليس للراهن ولا للمرتهن ذلك ، والكلام في العدل في ثلاثة مواضع : أحدها في بيان ما للعدل أن يفعله في الرهن وما ليس له أن يفعله فيه .

والثاني في بيان من يصلح عدلا في الرهن ومن لا يصلح والثالث في بيان ما ينعزل به العدل يخرج عن الوكالة وما لا ينعزل .

( أما ) الأول فنقول وبالله التوفيق : للعدل أن يمسك الرهن بيده وبيد من يحفظ ماله بيده ، وليس له أن يدفعه إلى المرتهن بغير إذن الراهن ، ولا إلى الراهن بغير إذن المرتهن قبل سقوط الدين ; لأن كل واحد منهما لم يرض بيد صاحبه حيث وضعاه في يد العدل .

ولو دفعه إلى أحدهما من غير رضا صاحبه ، فلصاحبه أن يسترده ويعيده إلى يد العدل كما كان ، ولو هلك قبل الاسترداد ، ضمن العدل قيمته ; لأنه صار غاصبا بالدفع ، وليس له أن ينتفع [ ص: 149 ] بالرهن ولا أن يتصرف فيه بالإجارة والإعارة والرهن وغير ذلك ; لأن الثابت له بالوضع في يده هو حق الإمساك لا الانتفاع والتصرف ، وليس له أن يبيعه ; لما قلنا ، إلا إذا كان مسلطا على بيعه في عقد الرهن أو متأخرا عنه فله أن يبيعه ; لأنه صار وكيلا بالبيع إلا أن التسليط إذا كان في العقد ، لا يملك عزله من غير رضا المرتهن ، وإذا كان متأخرا عن العقد ، يملك ; لما ذكرنا ، وله أن يبيع الزيادة المتولدة من الرهن ; لكونها مرهونة تبعا للأصل .

وكذا له أن يبيع ما هو قائم مقام الرهن ، نحو أن كان الرهن عبدا فقتله عبد أو فقأ عينه ; لأنه إذا قام مقامه ، جعل كأن الأول قائم ، ثم إذا سلطه على البيع مطلقا ، فله أن يبيعه بأي جنس كان من الدراهم والدنانير وغيرهما ، وبأي قدر كان بمثل قيمته أو بأقل منه قدر ما يتغابن الناس فيه ، وبالنقد والنسيئة عند أبي حنيفة ، وله أن يبيع قبل حلول الأجل ; ; لأن الأمر بالبيع مطلق ، وإذا باع ، كان الثمن رهنا عنده إلى أن يحل الأجل ; ; لأن ثمن المرهون مرهون ، فإذا حل الأجل أوفى دين المرتهن إن كان من جنسه ، وإن سلط على البيع عند المحل ، لم يكن له أن يبيعه قبله ; لما قلنا ولو كان الرهن بالمسلم فيه فسلطه على البيع عند المحل فله أن يبيعه بجنس المسلم فيه وغيره عند أبي حنيفة ، وعندهما يبيعه بالدراهم والدنانير وبجنس المسلم فيه وهي مسألة الوكيل بالبيع المطلق أنه يبيع بأي ثمن كان عند أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد ليس له أن يبيع بما لا يتغابن الناس فيه ولا بالنسيئة ولا بغير الدراهم والدنانير ، إلا أنهما جوزا ما في مسألة السلم بجنس المسلم فيه ; لأن الأمر بالبيع لقضاء الدين من ثمنه ، والجنس أقرب إلى القضاء منه .

ولو نهاه الراهن عن البيع بالنسيئة فإن نهاه عند عقد الرهن ، ليس له أن يبيع بالنسيئة ; ; لأن التوكيل حصل مقيدا فيلزمه مراعاة القيد متأخرا إذا كان التقييد مفيدا ، وهذا النوع من التقييد مفيد ولو نهاه متأخرا عن العقد ، لم يصح نهيه ; ; لأن التقييد المتراخي إبطال من حيث الظاهر ، كالتخصيص المتراخي عن النص العام عند بعض مشايخنا ، حتى جعلوه فسخا لا بيانا ، وإذا كان إبطالا لا يملكه الراهن كما لا يملك إبطال الوكالة الثابتة عند العقد بالعزل ، ثم إذا باع العدل الرهن ، خرج عن كونه رهنا ; لأنه صار ملكا للمشتري وصار ثمنه هو الرهن ; ; لأنه قام مقامه سواء كان مقبوضا أو غير مقبوض ، حتى لو توي عند المشتري ، كان على المرتهن ويهلك بالأقل من قدر الثمن ومن الدين ، ولا ينظر إلى قيمة المبيع بل ينظر إلى الثمن بعد البيع ; ; لأن الرهن انتقل إلى الثمن ، وخرج المبيع عن كونه رهنا فتعتبر قيمة الرهن ، ثم إن باعه بجنس الدين ، قضى دين المرتهن منه ، وإن باعه بخلاف جنسه ، باع الثمن بجنس الدين وقضى الدين منه ; ; لأنه مسلط على بيع الرهن ، وقضاء الدين من ثمنه وقضاء الدين من جنسه يكون ولو باع العدل الرهن ثم استحق في يد المشتري ، فللمشتري أن يرجع بالثمن على العدل ; ; لأن العاقد هو وحقوق العقد في باب البيع ترجع إلى العاقد ، والعدل بالخيار إن شاء يسترد من المرتهن ما أوفاه من الثمن وعاد دينه على الراهن كما كان ، وإن شاء رجع بما ضمن على الراهن وسلم للمرتهن ما قبض .

( أما ) ولاية استرداد الثمن من المرتهن ; فلأن البيع قد بطل بالاستحقاق ، وتبين أن قبض الثمن من المرتهن لم يصح ، فله أن يسترد منه ، وإذا استرده ، عاد الدين على حاله .

( وأما ) الرجوع بما ضمن على الراهن فله أن يرجع بالعهدة عليه ، وإذا رجع عليه ، سلم للمرتهن ما قبضه ; ; لأنه صح قبضه ، هذا إذا سلم الثمن إلى المرتهن ، فإن كان هلك في يده قبل التسليم ، ليس له أن يرجع إلا على الراهن ; لأنه وكيل الراهن بالبيع عامل له ، فكان عهدة عمله عليه في الأصل لا على غيره ، إلا أن له أن يرجع على المرتهن إذا قبض الثمن ; لما ذكرنا ، فإذا لم يقبض وجب العمل بالأصل فيرجع على الراهن بما ضمن ، وبطل الرهن بالاستحقاق ويرجع المرتهن بدينه على الراهن .

ولو لم يستحق الرهن ولكن المشتري وجد به عيبا كان له أن يرده على العدل ; لأن الرد بالعيب من حقوق البيع وأنها ترجع إلى العاقد ، والعاقد هو العدل فيرد عليه ويسترد منه الثمن الذي أعطاه ، والعدل بالخيار إن كان رده عليه بقضاء القاضي ، إن شاء رجع على المرتهن ; إن كان سلم الثمن إليه ، وإن شاء رجع على الراهن أما على المرتهن ; فلأنه إذا رد عليه بعيب بقضاء القاضي ، فقد انفسخ البيع ، فكان له أن يرجع بالثمن وعاد دين المرتهن على الراهن ، وعاد الرهن المردود رهنا بالدين .

( وأما ) الرجوع على الراهن ; فلأنه وكله بالبيع فيرجع عليه بالعهدة ، وإن كان العدل لم يعط المرتهن الثمن فإن رد العدل ما قبض من الثمن ، فلا يرجع على [ ص: 150 ] أحد ، وإن كان هلك في يده وضمن في ماله ، يرجع بما ضمن على الراهن خاصة دون المرتهن ; لما ذكرنا في الاستحقاق ، ويكون المردود رهنا كما كان ، هذا إذا كان بيع العدل بتسليط مشروط في عقد الرهن ، فأما إذا كان بتسليط وجد من الراهن بعد الرهن ، فإن العدل يرجع بما ضمن على الراهن لا على المرتهن ، سواء قبض المرتهن الثمن أو لم يقبضه ; ; لأنه وكيل الراهن ، وعهدة الوكيل فيما وكل به على موكله في الأصل ; ; لأنه عامل له ، فكان عهدة عمله عليه ، إلا أن التسليط إذا كان مشروطا في العقد ، يثبت له حق الرجوع على المرتهن ; لتعلق حقه بهذه الوكالة على ما نذكر إن شاء الله تعالى فإذا وقع البيع لحقه ، جاز أن يرجع بالضمان عليه ، وإذا لم يكن مشروطا فيه ، لم يثبت التعليق فبقي حق الرجوع بالعهدة على الموكل على حكم الأصل ، وللعدل أن يبيع الزوائد المتولدة من الرهن ; لأنها مرهونة تبعا للأصل ; لثبوت حكم الرهن فيها ، وهو حق الحبس تبعا فله أن يبيعها كما له أن يبيع الأصل وكذا العبد المدفوع بالجناية على الرهن بأن قتل الرهن أو فقأ عينه فدفع به للعدل أن يبيعه ; لأن الثاني قائم مقام الأول لحما ودما ، فصار كأن الأول قائم ، وللعدل أن يمتنع من البيع ، وإذا امتنع ، لا يجبر عليه ، وإن كان التسليط على البيع بعد الرهن وإن كان في الرهن ، لم يكن له أن يمتنع عنه .

ولو امتنع يجبر عليه ; لأن التسليط إذا لم يكن مشروطا في الرهن لم يتعلق به حق المرتهن فكان توكيلا محضا بالبيع ، فأشبه التوكيل بالبيع في سائر المواضع ، وإذا كان مشروطا فيه كان حق المرتهن متعلقا به فله أن يجبره على البيع ; لاستيفاء حقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية