بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما الذي يتعلق بحال هلاك المرهون : فالمرهون إذا هلك ، لا يخلو إما أن يهلك بنفسه وإما أن يهلك بالاستهلاك ، فإن هلك بنفسه ، يهلك مضمونا بالدين عندنا .

والكلام في هذا الحكم في ثلاثة مواضع : أحدها في بيان أصل الضمان أنه ثابت أم لا ، والثاني في بيان شرائط الضمان ، والثالث في بيان قدر الضمان وكيفيته أما الأول فقد اختلف فيه قال أصحابنا رضي الله عنهم : إن المرهون يهلك مضمونا بالدين ، وقال الشافعي رحمه الله : يهلك أمانة احتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يغلق الرهن ، لا يغلق الرهن ، لا يغلق الرهن ، هو لصاحبه الذي رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه } فقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام غرم الرهن على الراهن ، وإنما يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة ; لأن عليه قضاء دين المرتهن ، فأما إذا هلك مضمونا ، كان غرمه على المرتهن حيث سقط حقه ، لا على الراهن ، وهذا خلاف النص ; ولأن عقد الرهن شرع وثيقة بالدين .

ولو سقط الدين بهلاك المرهون ، لكان توهينا لا توثيقا ; لأنه يقع تعريض الحق للتلف على تقدير هلاك الرهن ، فكان توهينا للحق لا توثيقا له .

( ولنا ) ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { : الرهن بما فيه ، وفي رواية : الرهان بما فيها } وهذا نص في الباب لا يحتمل التأويل وروي أن رجلا رهن بدين عند رجل فرسا بحق له عليه ، فنفق الفرس عنده ; فطالبه المرتهن بحقه ، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : { ذهب حقك } ; ولأن المرتهن جعل مستوفيا للدين عند هلاك الرهن ، فلا يملك الاستيفاء ثانيا كما إذا استوفى بالفكاك ، وتقرير معنى الاستيفاء في الرهن ذكرناه في مسائل الخلاف .

وأما الحديث [ ص: 155 ] فيحتمل أن يكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام { : لا يغلق الرهن } أي لا يهلك ، إذ الغلق يستعمل في الهلاك ، كذا قال بعض أهل اللغة ، وعلى هذا كان الحديث حجة عليه ; لأنه يذهب بالدين ; فلا يكون هالكا معنى ، وقيل : معناه أي لا يستحقه المرتهن ولا يملكه عند امتناع الراهن عن قضاء الدين ، وهذا كان حكما جاهليا ، جاء الإسلام فأبطله ، وقوله : عليه الصلاة والسلام عليه غرمه ، أي نفقته وكنفه ، ونحن به نقول : إنه وثيقة ، قلنا : معنى التوثيق في الرهن هو التوصل إليه في أقرب الأوقات ; لأنه كان للمرتهن ولاية مطالبة الراهن بقضاء الدين من مطلق ماله ، وبعد الرهن حدثت له ولاية المطالبة بالقضاء من ماله المعين وهو الرهن بواسطة البيع فازداد طريق الوصول إلى حقه ; فحصل معنى التوثيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية