بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ومنها أن تكون موافقة للدعوى فيما يشترط فيه الدعوى فإن خالفتها لا تقبل إلا إذا وفق المدعي بين الدعوى وبين الشهادة عند إمكان التوفيق ; ; لأن الشهادة إذا خالفت الدعوى فيما يشترط فيه الدعوى ، وتعذر التوفيق انفردت عن الدعوى ، والشهادة المنفردة عن الدعوى فيما يشترط فيه الدعوى غير مقبولة ، وبيان ذلك في مسائل : إذا ادعى ملكا بسبب ، ثم أقام البينة على ملك مطلق لا تقبل ، وبمثله لو ادعى ملكا مطلقا ثم أقام البينة على الملك بسبب تقبل .

( ووجه ) الفرق أن الملك المطلق أعم من الملك بسبب ; ; لأنه يظهر من الأصل حتى تستحق به الزوائد ، والملك بسبب يقتصر على وقت وجود السبب ، فكان الملك المطلق أعم ، فصار المدعي بإقامة البينة على الملك المطلق مكذبا شهوده في بعض ما شهدوا به .

والتوفيق متعذر ; ; لأن الملك من الأصل ينافي الملك الحادث بسبب لاستحالة ثبوتهما معا في محل واحد ، بخلاف ما إذا ادعى الملك المطلق ثم أقام البينة على الملك بسبب ; ; لأن الملك بسبب أخص من الملك المطلق على ما بينا فقد شهدوا بأقل مما ادعى ، فلم يصر المدعي مكذبا شهوده ، بل صدقهم فيما شهدوا به ، وادعى زيادة شيء لا شهادة لهم عليه ، وصار كما لو ادعى ألفا وخمسمائة فشهد الشهود على ألف أنه تقبل البينة على الألف لما ، قلنا كذا هذا ، ولو ادعى الملك بسبب معين ، ثم أقام البينة على الملك بسبب آخر : بأن ادعى دارا في يد رجل أنه ورثها من أبيه ، ثم أقام البينة على الملك : أنه اشتراها من صاحب اليد أو وهبها له أو تصدق بها عليه وقبض ، أو ادعى الشراء أو الهبة أو الصدقة ، ثم أقام البينة على الإرث لا تقبل بينته ; ; لأن الشهادة خالفت الدعوى لاختلاف البينتين صورة ومعنى ، أما الصورة فلا شك فيها .

وأما المعنى ; فلأن حكم البينتين يختلف فلا يقبل إلا إذا وفق بين الدعوى والشهادة ، فقال : كنت اشتريت منه لكنه جحدني الشراء وعجزت عن إثباته فاستوهبت منه فوهب مني ، وقبضت ، وأعاد البينة ، تقبل ; ; لأنه وفق فقد زالت المخالفة وظهر أنه لم يكذب شهوده ، ويصير هذا في الحقيقة ابتداء .

ولهذا يجب عليه إعادة البينة لتقع الشهادة عند الدعوى ، وكذا إذا وفق فقال : ورثته من أبي إلا أنه جحد إرثي فاشتريت منه ، أو وهب لي فإنها تقبل لزوال التناقض والاختلاف بين الدعوى والشهادة ، ولو ادعى الشراء بعد هذا وأقام البينة على الشراء بألف درهم لا تقبل ; ; لأن البدل قد اختلف ، واختلاف البدل يوجب اختلاف العقد ، فقد قامت البينة على عقد آخر غير ما ادعاه المدعي ، فلا تقبل إلا إذا وفق المدعي ، فقال : اشتريت بالعبد إلا أنه جحدني الشراء به فاشتريته بعد ذلك بألف درهم ، فتقبل لزوال المخالفة ، وهذا إذا كان دعوى التوفيق في مجلس آخر بأن قام عن مجلس الحكم ثم جاء وادعى التوفيق .

فأما إذا لم يقم عن مجلس الحكم فدعوى التوفيق غير مسموعة ، ولو ادعى أنه له ثم أقام البينة على أنه لفلان وكله بالخصومة فيه ، تقبل بينته ، وبمثله لو ادعى أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه ، ثم أقام البينة على أنه له لا تقبل ، ووجه الفرق أن قوله أولا : إنه لي لا ينفي قوله : إنه لفلان وكلني بالخصومة فيه لجواز أن يكون له بحق الخصومة والمطالبة ، ولغيره بحق الملك ، فكان التوفيق ممكنا فقبلت البينة بخلاف الفصل الثاني ; ; لأن قوله هو لفلان وكلني بالخصومة فيه ، ينفي قوله بعد ذلك هو لي ; لأنه صرح بأن الملك فيه لفلان ، وأنه وكيل بالخصومة فيه بقوله : إنه لفلان وكلني بالخصومة فيه ، فكان قوله بعد ذلك : " هو لي " إقرارا منه بالملك لنفسه فكان مناقضا فلا تقبل ، ولو ادعى أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه ثم أقام البينة على أنه لفلان آخر وكلني بالخصومة فيه ، لا تقبل ; ; لأن قوله أولا : إنه لفلان [ ص: 274 ] وكلني بالخصومة فيه ، كما ينفي قوله : " إنه لي " ينفي قوله : " إنه لفلان آخر وكلني بالخصومة فيه " فلا تقبل إلا إذا وفق فقال : " إن الموكل الأول باع من الموكل الثاني ثم وكلني الثاني بالخصومة " فيقبل لزوال المناقضة ، ولو ادعى في ذي القعدة أنه اشترى منه هذه الدار في شهر رمضان بألف ونقده الثمن ، ثم أقام البينة على أنه تصدق بالدار على المدعي في شعبان ، لا تقبل بينته ; ; لأن دعوى التصدق في شعبان تنافي الشراء في شهر رمضان لاستحالة شراء الإنسان ملك نفسه ، والتوفيق غير ممكن فلا تقبل .

وإن أقام البينة على التصدق في شوال ، ووفق فقال : " جحدني الشراء ثم تصدق بها علي " تقبل ولو ادعى دارا في يدي رجل أنها له وأقام البينة على أنها كانت في يد المدعي بالأمس لا تقبل ، وعن أبي يوسف أنها تقبل ويؤمر بالرد إليه ، ولو أقام صاحب اليد البينة على أنها كانت ملكا للمدعي تقبل بالإجماع ( وجه ) قول أبي يوسف - رحمه الله - أن البينة لما قامت على أنها ما كانت في يده ، فالأصل في الثابت بقاؤه ، ولهذا قبلت البينة على ملك كان ; ولأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ، ولو ثبت بالمعاينة أو بالإقرار أنه كان في يده بالأمس يؤمر بالرد إليه كذا هذا ( وجه ) ظاهر الرواية أن الشهادة قامت على يد كانت ، فلا يثبت الكون للحال إلا بحكم استصحاب الحال ، وأنه لا يصلح للإلزام ، ; ولأن اليد قد تكون محقة ، وقد تكون مبطلة ، وقد تكون يد ملك ، وقد تكون يد أمانة ، فكانت محتملة ، والمحتمل لا يصلح حجة ، بخلاف الملك والمعاينة ، وبخلاف الإقرار ; ; لأنه حجة بنفسه ، والبينة ليست بحجة بنفسها بل بقضاء القاضي ، ولا وجه للقضاء بالمحتمل ، ولو أقام البينة أنها كانت في يده بالأمس فأخذها هذا منه ، أو غصبها أو أودعه أو أعاره تقبل ، ويقضي للخارج ; لأنه علم بالبينة أنه تلقى اليد من جهة الخارج فيؤمر بالرد إليه ، وعلى هذا يخرج ما إذا ادعى دارا في يد رجل أنه ورثها من أبيه وأقام البينة على أنها كانت لأبيه ، فنقول هذا لا يخلو من أربعة أوجه ، إما أن شهدوا أن الدار كانت لأبيه ولم يقولوا مات وتركها ميراثا له ، وإما أن قالوا إنها كانت لأبيه مات وتركها ميراثا له ، وإما أن قالوا إنها كانت في يد أبيه يوم الموت ، وإما أن أثبتوا من أبيه فعلا فيها عند موته أما الوجه الأول فعلى قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - " لا تقبل الشهادة " وعلى قول أبي يوسف " تقبل " ، وكذا لو شهدوا أنها كانت لأبيه مات قبلها لا تقبل ، قالوا : يجب أن يكون هذا على قولهما ، أما على قول أبي يوسف على ما روي عنه في الأمالي " ينبغي أن تقبل " ، ( وجه ) قوله أن الملك متى ثبت لأبيه بشهادتهم ، فالأصل فيما ثبت يبقى إلى أن يوجد المزيل فصار كما لو شهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت أيضا ( وجه ) قولهما أن الشهادة خالفت الدعوى ; ; لأن المدعي ادعى ملكا كائنا ، والشهادة وقعت بملك كان لا بملك كائن ، فكانت الشهادة مخالفة للدعوى فلا يقبل قوله ما ثبت يبقى ، قلنا : نعم لكن لا حكما لدليل الثبوت ; لأن دليل الثبوت لا يتعرض للبقاء ، وإنما البقاء بحكم استصحاب الحال ، وإنه لا يصلح حجة للاستحقاق ، ولو شهدوا أنها كانت لجده فعندهما لا يقضي بها ما لم يشهدوا بالميراث بأن يقولوا : " مات جده وتركها لأبيه ثم مات أبوه وتركها ميراثا له " وعند أبي يوسف ينظر : إن علم أن الجد مات قبل الأب يقضي بها له ، وإن علم أن الأب مات قبل الجد أو لم يعلم لم يقض بها ، ولو شهدوا أنها لأبيه لا يقضي بها له ، منهم من قال هذا على الاتفاق ، ومنهم من قال هو على الخلاف الذي ذكرناه ، وهو الصحيح ، فإنه روي عن أبي يوسف أنها تقبل وأما الوجه الثاني - وهو ما إذا شهدوا أنها كانت لأبيه مات وتركها ميراثا له ، فلا شك أن هذه الشهادة مقبولة ; ; لأنهم شهدوا بالملك الموروث عند الموت والترك ميراثا له ، وهو تفسير الملك الموروث وأما الوجه الثالث - وهو ما إذا شهدوا أنها كانت في يده يوم الموت ، فالشهادة مقبولة ; ; لأن مطلق اليد من الأصل يحمل على يد المالك فكانت الشهادة بيد قائمة عند الموت شهادة بملك قائم عند الموت ، فإذا مات فقد ترك فثبت الملك له في المتروك ، إذ هو تفسير الملك الموروث ; ولأن يده إن كانت يد ملك كان الملك ثابتا للمورث عند الموت ، وإن كانت يد أمانة انتقلت يد ملك إذا مات مجهلا ; ; لأن التجهيل عند الموت سبب لوجوب الضمان ، ووجوب الضمان سبب لثبوت الملك في المضمون عندنا وأما الوجه الرابع ، وهو ما إذا ثبت ليد المشهود من الأب فعلا في العين عند الموت ، فهذا على وجهين : إما أن يكون ذلك فعلا هو دليل اليد ، وإما أن يكون فعلا ليس هو دليل اليد ، والفعل [ ص: 275 ] الذي هو دليل اليد هو فعل لا يتصور وجوده بدون النقل في النقليات ، كاللبس والحمل ، أو فعل يوجد للنقل عادة ، كالركوب في الدواب ، أو فعلا يوجد في الغالب من الملاك فيما لا يقبل النقل لا من غيرهم كالسكنى في الدور ، والفعل الذي ليس بدليل اليد هو فعل ثبت في النقليات من غير نقل ، ولا يكون حصوله للنقل عادة كالجلوس على البساط ، أو فعل ليس بفعل للملاك غالبا فيما لا يقبل ، كالنوم والجلوس في الدار وأشباه ذلك فإن كان فعلا هو دليل اليد تقبل الشهادة القائمة على ثبوته عند موت الأب ، ; لأن الشهادة القائمة على ما هو دليل اليد عند الموت قائمة على اليد عند الموت ، وإن كان فعلا ليس بدليل اليد لا تقبل الشهادة ; لأنه لم يوجد دليل اليد التي هي دلالة الملك ; وعلى هذا يخرج ما إذا أقام المدعي البينة أن أباه مات في هذه الدار : أنها لا تقبل ; لأنه لم توجد الشهادة على اليد الدالة على الملك ، ولا على فعل دال على اليد ، ولا على فعل هو فعل الملاك غالبا ; لأن الدار قد يموت فيها المالك ، وقد يموت فيها غير المالك من الزوار والضيف ونحوه ، ولو شهدوا أنه مات وهو لابس هذا القميص ، أو لابس هذا الخاتم تقبل ; ; لأن لبس القميص والخاتم فعل لا يتصور بدون النقل ، فكان دليلا على اليد عند الموت أطلق محمد - رحمه الله - في الجامع الجواب في الخاتم ، ومنهم من حمل جواب الكتاب على ما إذا كان الخاتم في خنصره أو بنصره يوم الموت ، وزعم أنه إذا كان فيما سواهما من الأصابع لا تقبل الشهادة ; لأن استعمال الملاك في الخاتم هذا عادة فكانت الشهادة القائمة عليه قائمة على اليد ، فأما جعله فيما سواهما من الأصابع من الملاك فهو ليس بمعتاد فلا يكون ذلك استعمال الخاتم ، فلا يكون دليل اليد ، ولهذا قالوا لو جعل المودع الخاتم في خنصره أو بنصره فضاع من يده يضمن لما أنه استعمله ، ولو جعله فيما سواهما الأصابع فضاع لا يضمن لما أن ذلك حفظ وليس باستعمال ، والصحيح إطلاق جواب الكتاب ; لأن فعله كيف ما كان لا يتصور بدون النقل فكان دليلا على اليد ، ولو شهدوا أنه مات وهو جالس على هذا البساط ، أو على هذا الفراش أو نائم عليه ، لا تقبل ; لأن هذه الأفعال تتصور من غير نقل ولا تفعل للنقل عادة ، فلم يكن دليل اليد ، فإن قيل أليس أنه لو تنازع اثنان في بساط ، أحدهما جالس عليه ، والآخر متعلق به أنه يكون بينهما نصفين ، وهذا دليل ثبوت يديهما عليه قيل له : إنما قضى به بينهما نصفين لدعواهما أنه في يديهما لا لثبوت اليد ; لأن الجلوس عليه والتعلق به ، كل واحد منهما يتحقق بدون النقل ، ولا يوجد أن النقل غالبا على ما بينا ، فلا يكون دليل اليد ، ولو شهدوا أنه مات وهو راكب على هذه الدابة تقبل ، ويقضي بالدابة للوارث ; لأن الركوب وإن كان يتهيأ بدون نقل الدابة ، إلا أنه لا يفعل عادة إلا للنقل ، فكان دليل اليد ، ولو شهدوا أنه مات وهو ساكن هذه الدار تقبل ، ويقضي للوارث ( وروي ) عن أبي يوسف أنه لا تقبل ولا يقضي ، ( ووجهه ) أن فعل السكنى في الدار كما يوجد من الملاك يوجد من غيرهم فلا يصلح دليلا على اليد ، والصحيح جواب ظاهر الرواية ; ; لأن السكنى فعل يوجد في الغالب من الملاك لا من غيرهم هذا هو المعتاد فيما بين الناس فيحمل المطلق عليه ، ولو شهدوا أنه مات وهذا الثوب موضوع على رأسه ، ولم يشهدوا أنه كان حاملا له لا تقبل ، ولا يستحق المدعي بهذا شيئا ; لأنه يحتمل أنه وضعه بنفسه ، أو وضعه غيره ، ويحتمل أنه وقع عليه من غير صنع أحد بأن هبت ريح به فألقته على رأسه فوقع الشك في النقل منه ، فلا يثبت النقل منه بالشك ، فلا تثبت اليد بالشك ، ثم نقول إذا شهد الشهود أنها كانت لأبيه مات وتركها ميراثا للورثة ، فلا يخلو إما أن قالوا : " هذا وارثه لا وارث له غيره " ، وإما أن قالوا : " هو وارثه لا نعلم أن له وارثا غيره " ، وإما أن قالوا : " هو وارثه " ، ولم يقولوا لا وارث له غيره ، ولا قالوا : " لا نعلم له وارثا غيره " فأما الوجه الأول - وهو ما إذا قالوا : " هو وارثه لا وارث له غيره " فإنه تقبل شهادتهم استحسانا ، والقياس أن لا تقبل ; لأنها كشهادة على ما لا علم للشاهد به لاحتمال أن يكون له وارث لا يعلمه ، وقد قال عليه السلام للشاهد { إذا علمت مثل الشمس فاشهد ، وإلا فدع } ( وجه ) الاستحسان أن قولهم لا وارث له غيره معناه في متعارف الناس وعاداتهم : لا نعلم له وارثا غيره ، أو لا وارث له غيره في علمنا ، ولو نص على ذلك لقبلت شهادتهم ، فكذا هذا والله سبحانه أعلم ( وأما ) الوجه الثاني - وهو ما إذا قالوا : " هو وارثه لا نعلم له وارثا غيره " [ ص: 276 ] تقبل شهادتهم عند عامة العلماء رضي الله عنهم .

وقال ابن أبي ليلى - رحمه الله - لا تقبل حتى يقولوا : " لا وارث له غيره " ; لأنهم لو لم يقولوا : " لا وارث له غيره " احتمل أن يكون له وارث غيره لا يعلمونه ، والصحيح قول العامة ; لأن الشاهد إنما تحل له الشهادة بما في علمه ، ونفي وارث آخر ليس في علمه ، فلا تحل له الشهادة به ، إلا على اعتبار ما في علمه على ما ذكرنا ولو قالوا : " لا نعلم له وارثا غيره في هذا المصر ، أو في أرض كذا " تقبل عند أبي حنيفة ، وعندهما لا تقبل ( وجه ) قولهما أن قولهم : " لا نعلم له وارثا غيره في هذا المصر " لا ينفي وارثا غيره لجواز أن يكون له وارث آخر في مصر آخر ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - أنه لو كان له وارث آخر في موضع آخر لعلموه ; لأن وارث الإنسان لا يخفى على أهل بلده عادة ، فكان التخصيص والتعميم فيه سواء ، ثم إذا شهدوا أنه وارثه لا وارث له غيره ، أو شهدوا أنه وارثه لا نعلم له وارثا غيره ، أو لا نعلم له وارثا غيره في هذا المصر على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فإنه يدفع كل التركة إليه ، سواء كان الوارث ممن لا يحتمل الحجب ، كالابن والأب والأم ونحوهم ، أو يحتمله ، كالأخ والأخت والجد ونحوهم ; لأنه تعين وارثا له فيدفع إليه جميع الميراث إلا إذا كان زوجا أو زوجة فلا يعطى إلا أكثر نصيبه ، فلا يعطى الزوج إلا النصف ، ولا تعطى المرأة إلا الربع ; لأنهما لا يستحقان من الميراث أكثر من ذلك ; لأنه لا يرد عليهما ، وفي هذين الموضعين لا يؤخذ من الوارث كفيل بالإجماع وأما الوجه الثالث - وهو ما إذا شهدوا أنه وارثه ولم يقولوا : " لا وارث له غيره " ، ولا قالوا : " لا نعلم له وارثا غيره " فإنه ينظر إن كان ممن يحتمل الحجب لا يدفع إليه شيء لجواز أن يكون ثمة حاجب ، فإن كان لا يعطى ، وإن لم يكن يعطى بالشك ، وإن كان ممن لا يحتمل الحجب يدفع إليه جميع المال إلا الزوج والزوجة ، فإنه لا يدفع إليهما إلا نصيبهما ، وهو أكثر النصيبين ، عند محمد - رحمه الله - للزوج النصف وللمرأة الربع ، وعند أبي يوسف - رحمه الله - أقل النصيبين ، للزوج الربع وللمرأة الثمن في ظاهر الرواية عنه ( وجه ) قول محمد - رحمه الله - أن النقصان عن أكثر النصيبين باعتبار المزاحمة ، وفي وجود المزاحم شك ، فلا يثبت النقصان بالشك ، ولأبي يوسف - رحمه الله - أن الأقل ثابت بيقين ، وفي الزيادة شك فلا تثبت الزيادة بالشك وروي عنه رواية أخرى أن للزوج الربع وللمرأة ربع الثمن لجواز أن يكون له أربع نسوة فيكون لها ربع الثمن ; لأنه ثابت بيقين وفي الزيادة شك ، وروى عنه أصحاب الإملاء وللزوج الخمس ، وللمرأة ربع التسع ، أما الزوج ; فلأن من الجائز أن يكون للمرأة أبوان وبنتان وزوج ، أصل المسألة من اثني عشر ، للأبوين السدسان : أربعة ، وللبنتين الثلثان : ثمانية ، وللزوج الربع : ثلاثة ، فعالت بثلاثة أسهم فصارت الفريضة من خمسة عشر ، وثلاثة من خمسة عشر : خمسها فذلك للزوج .

وأما المرأة ; فلأن من الجائز أن يكون للميت أبوان وبنتان وزوجة ، أصل المسألة من أربعة وعشرين ، للأبوين السدسان : ثمانية ، وللبنتين الثلثان : ستة عشر ، وللزوجة الثمن : ثلاثة ، فعالت بثلاثة أسهم فصارت الفريضة سبعة وعشرين ، وثلاثة من سبعة وعشرين : تسعها ، ثم من الجائز أن يكون معها ثلاثة أخرى فيكن أربع زوجات ، فيكون لها ربع التسع ، وثلاثة على أربعة لا تستقيم ، فتضرب أربعة في تسعة ، ويكون ستة وثلاثين سهما ، تسعها : أربعة ، فلها من ذلك سهم ، وهو ربع التسع ، وهو سهم من ستة وثلاثين سهما ، ثم في هذا الوجه الثالث إذا كان الوارث ممن لا يحتمل الحجب ودفع المال إليه هل يؤخذ منه كفيل ؟ قال أبو حنيفة - عليه الرحمة - : " لا يؤخذ " ، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - : " يؤخذ " ( وجه ) قولهما أن أخذ الكفيل لصيانة الحق ، والحاجة مست إلى الصيانة لاحتمال ظهور وارث آخر فيؤخذ الكفيل نظرا للوارث ، كما في رد الآبق واللقطة إلى صاحبها ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - إن حق الحاضر للحال ثابت بيقين ، وفي ثبوت الحق لوارث آخر شك ; لأنه قد يظهر وارث آخر ، وقد لا يظهر ، فلا يجوز تعطيل الحق الثابت بيقين لحق مشكوك فيه مع ما أن المكفول له مجهول ، والكفالة للمجهول غير صحيحة ، وإنما أخذ الكفيل بتسليم الآبق واللقطة ، فقد قيل : إنه قولهما لما أن في المسألة روايتين فأما عند أبي حنيفة - رحمه الله - فلا يؤخذ الكفيل على أنا سلمنا فتلك كفالة لمعلوم لا لمجهول ; لأن الراد إنما يأخذ الكفيل لنفسه كي لا يلزمه الضمان فلم تكن كفالة لمجهول وذكر أبو حنيفة - رحمه الله - هذه المسألة في الجامع الصغير [ ص: 277 ] وقال هذا شيء احتاط به بعض القضاة ، وهو ظلم ، أرأيت لو لم يجد كفيلا كنت أمنعه حقه دلت تسميته أخذ الكفيل ظلما على أن مذهبه : أن ليس كل مجتهد مصيبا ، إذ الصواب لا يحتمل أن يكون ظلما فدلت المسألة على براءة ساحته عن لوث الاعتزال بحمد الله ومنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية