بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ومنها اتفاق الشهادتين فيما يشترط فيه العدد فإن اختلفا لم تقبل ; لأن اختلافهما يوجب اختلاف الدعوى والشهادة ، ; ولأن عند اختلاف الشهادتين لم يوجد إلا أحد شطري الشهادة ، ولا يكتفى به فيما يشترط فيه العدد ، ثم نقول : الاختلاف قد يكون في جنس المشهود به ، وقد يكون في قدره ، وقد يكون في الزمان ، وقد يكون في المكان ، وغير ذلك ، أما اختلافهما في الجنس فقد يكون في العقد ، وقد يكون في المال ، أما في العقد فهو أن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالميراث أو بالهبة أو غير ذلك ، فلا تقبل لاختلاف العقدين صورة ومعنى ، فقد شهد كل واحد منهما بعقد غير ما شهد به الآخر ، وليس على أحدهما شهادة شاهدين وأما في المال فهو أن يشهد أحدهما بمكيل والآخر بموزون ، فلا تقبل ; لأنهما جنسان مختلفان وليس على أحدهما شهادة شاهدين .

وأما اختلاف الشهادة في قدر المشهود به ، فنحو ما إذا ادعى رجل على رجل ألفي درهم ، وأقام شاهدين شهد أحدهما بألفين والآخر بألف ، لا تقبل عند أبي حنيفة - رحمه الله - أصلا ، وعندهما تقبل على الألف ولو كان المدعي يدعي ألفا وخمسمائة ، فشهد أحدهما بألف وخمسمائة والآخر بألف ، تقبل على الألف بالإجماع ، وجه قولهما : أن الشهادة لم تخالف الدعوى في قدر الألف بل وافقتها بقدرها ، إلا أن المدعي يدعي زيادة مال لا شهادة لهم عليه ، فيثبت قدر ما وقع الاتفاق عليه ، كما إذا ادعى ألفا وخمسمائة فشهد أحدهما بذلك والآخر بألف تقبل على الألف لما قلنا كذا هذا ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن شطر الشهادة خالف الدعوى ; لأن المدعي يدعي ألفين ، وأنه اسم وضع دلالة على عدد معلوم ، والاسم الموضوع دلالة على عدد لا يقع على ما دون ذلك العدد كسائر أسماء الأعداد ، كالبرك لألف من الإبل والهنيدة لمائة منها ونحو ذلك ، فلم تكن الألف المفردة مدعى ، فلم تكن الشهادة شاهدة على ما دخل تحت الدعوى فانفردت الشهادة عن الدعوى فيما يشترط فيه الدعوى ، فلا تقبل ، بخلاف ما إذا ادعى ألفا وخمسمائة فشهد أحدهما بذلك والآخر بألف أنه يقبل على الألف ; لأن الألف والخمسمائة اسم لعددين ، ألا ترى أنه يعطف أحدهما على الآخر فيقال : ألف وخمسمائة فكان كل واحد منهما بانفراده داخلا تحت الدعوى ، فالشهادة القائمة عليهما تكون قائمة على كل واحد منهما مقصودا ، فإذا شهد أحدهما بألف فقد شهد بأحد العددين الداخلين تحت الدعوى ، فكانت الشهادة موافقة للدعوى في عدد الألف فيقضى به للمدعي ; لقيام الحجة عليه - بخلاف الألف والألفين - ; لأنه اسم لعدد واحد لا تصح على ما دونه بحال ، فلم تكن الألف المفردة داخلة تحت الدعوى ، فكانت الشهادة القائمة عليها شهادة على ما لم يدخل تحت الدعوى ، فلا تقبل فهو الفرق بينهما ولو ادعى ألفا فشهد أحدهما بالألف والآخر بألفين لا تقبل على الألف بالإجماع ; لأن المدعي كذب أحد شاهديه في بعض ما شهد به فأوجب ذلك تهمة في الباقي ، فلا تقبل إلا إذا وفق فقال : كان لي عليه ألفان إلا أنه كان قد قضاني ألفا ، ولم يعلم به الشاهد فيقبل ، وكذا لو ادعى ألفا فشهد أحدهما بها والآخر بألف وخمسمائة لا تقبل لما قلنا ، إلا إذا وفق فقال : كان لي عليه ألف وخمسمائة ، إلا أنه قضاني خمسمائة ولم يعلم بها الشاهد فتقبل ; لأنه إذا وفق فقد زال الاختلاف المانع من القبول [ ص: 279 ] ولو ادعى على رجل أنه باع عبده بألفي درهم وهو ينكر ، فشهد شاهد بألفين وآخر بألف ، أو ادعى أنه باعه بألف وخمسمائة ، فشهد أحدهما بألف وخمسمائة ، والآخر بألف لا تقبل بالإجماع ; لأن الشاهدين اختلفا في البدل ، واختلاف البدلين يوجب اختلاف العقدين ، فصار كل واحد منهما شاهدا بعقد غير عقد صاحبه ، وليس على أحدهما شهادة شاهدين فلا تقبل ولا يثبت العقد ، وكذا لو كان المشتري مدعيا والبائع مدعى عليه لما قلنا ، فإن كان هذا في الإجارة ينظر إن كانت الدعوى من المؤاجر في مدة الإجارة لا تقبل ; لأن هذا يكون دعوى العقد ، وليس على أحد العاقدين شهادة شاهدين فلا تقبل كما في باب البيع ، وإن كانت الدعوى بعد انقضاء مدة الإجارة فهذا دعوى المال لا دعوى العقد ، فكان حكمه حكم سائر الديون ، وقد ذكرناه على الاتفاق والاختلاف ، هذا إذا كانت الدعوى من المؤاجر ، فإن كانت من المستأجر لا تقبل ، سواء كانت الدعوى في المدة ، أو بعد انقضائها ; ; لأن هذا دعوى العقد ، ولو كان هذا في النكاح ، فإن كانت الدعوى من المرأة ، فهذا دعوى المال عند أبي حنيفة - عليه الرحمة - حتى أنها لو ادعت على رجل أنه تزوجها على ألف وخمسمائة ، فشهد لها شاهدان أحدهما بألف وخمسمائة والآخر بألف تقبل ، والنكاح جائز بألف درهم ، وعندهما لا تقبل ولا يجوز النكاح ; ; لأن هذا دعوى العقد ، ولو كانت الدعوى من الرجل ، والمرأة تنكر لا تقبل بالإجماع ; ; لأن هذا دعوى العقد ، ولو كانت الدعوى في الخلع أو في الطلاق على مال ، أو في العتاق ، أو في الصلح عن دم العمد على مال ، فإن كانت الدعوى من الزوج أو من المولى أو ولي القصاص تقبل ; ; لأن هذا دعوى المال ، وإن كانت الدعوى من المرأة أو العبد أو القاتل لا تقبل ; لأن هذا دعوى العقد ، ولو كان هذا في الكتابة ، فإن كانت الدعوى من المكاتب لا تقبل ; لأن هذا دعوى العقد ، فلا تقبل ولا تصح الكتابة ، وإن كانت من المولى فلا تصح ; لأن للمكاتب أن يعجز نفسه متى شاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية