بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
[ ص: 283 ] ( كتاب الرجوع عن الشهادة )

الكلام في هذا الكتاب في الأصل في موضع واحد ، وهو بيان حكم الرجوع عن الشهادة ، فنقول وبالله التوفيق : الرجوع عن الشهادة يتعلق به حكمان : أحدهما - يرجع إلى مال الشاهد ، والثاني - يرجع إلى نفسه أما الذي يرجع إلى ماله فهو وجوب الضمان ، والكلام فيه في ثلاثة مواضع : في بيان سبب وجوب الضمان ، وفي بيان شرائط الوجوب ، وفي بيان مقدار الواجب ، أما الأول - فسبب وجوب الضمان في هذا الباب إتلاف المال أو النفس بالشهادة ; ; لأن الضمان في الشرع إنما يجب إما بالالتزام أو بالإتلاف ، ولم يوجد الالتزام فيتعين الإتلاف فيها سببا لوجوب الضمان ، فإن وقعت إتلافا انعقدت سببا لوجوب الضمان وإلا فلا .

وعلى هذا يخرج ما إذا شهدا على رجل بألف ، وقضى القاضي بشهادتهما ، ثم رجعا أنهما يضمنان الألف ; لأنهما لما رجعا عن شهادتهما بعد القضاء تبين أن شهادتهما وقعت سببا إلى الإتلاف في حق المشهود عليه ، والتسبب إلى الإتلاف بمنزلة المباشرة في حق سببية وجوب الضمان ، كالإكراه على إتلاف المال وحفر البئر على قارعة الطريق ونحوه ، ( فإن قيل ) لما رجعا عن شهادتهما تبين أن قضاء القاضي لم يصح فتبين أن المدعي أخذ المال بغير حق ، فلم لا يرده إلى المشهود عليه ؟ قيل له : إنه بالرجوع لم يتبين بطلان القضاء ; لأن الشاهد غير مصدق في الرجوع في حق القاضي والمشهود له لوجهين : الأول - أن الرجوع يحتمل الصدق والكذب ، والقضاء بالحق للمشهود به نفذ بدليل من حيث الظاهر ، وهو الشهادة الصادقة عند القاضي ، فلا ينتقض الثابت ظاهرا بالشك والاحتمال فبقي القضاء ماضيا على الصحة والمدعى في يد المدعي كما كان .

والثاني - أن الشاهد في الرجوع عن شهادته متهم في حق المشهود له ، لجواز أن المشهود عليه غره بمال أو غيره ليرجع عن شهادته فيظهر كذب المدعي في دعواه فلم يصدق في الرجوع في حق المشهود له للتهمة ، إذ التهمة كما تمنع قبول الشهادة تمنع صحة الرجوع عن الشهادة ، فلم يصح الرجوع في حقه فلم ينقض القضاء ، ولا يسترد المدعى من يده ، ومعنى التهمة لا يتوهم في المشهود عليه فصح الرجوع في حقه ، إلا أنه لا يمكن إظهار الصحة في نقض القضاء والتوصل إلى عين المشهود به ، فيظهر في التوصل إلى بدله رعاية للجوانب كلها ، وإذا رجعا قبل القضاء لا يضمنان ; ; لأن الشهادة لا تصير حجة إلا بالقضاء ، فلا تقع تسبيبا إلى الإتلاف بدونه ، وعلى هذا إذا شهدا على رجل أنه طلق امرأته فقضى القاضي بشهادتهما ، ثم رجعا ، إن كان الطلاق بعد الدخول بأن كان الزوج مقرا بالدخول : لا ضمان عليهما لانعدام الإتلاف ; لأن المهر يجب بنفس العقد ، ويتأكد بالدخول لا بشهادتهما فلم تقع شهادتهما إتلافا ، فلم يجب الضمان ، وإن كان الطلاق قبل الدخول فقضى القاضي بنصف المهر بأن كان المهر مسمى أو بالمتعة بأن لم يكن المهر مسمى ثم رجعا : ضمنا ذلك للزوج ; لأن شهادتهما وإن لم توجب على الزوج شيئا من المهر ، لكنها أكدت الواجب لأن الواجب قبل الدخول كان محتملا للسقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها وبشهادتهما بالطلاق تأكد الواجب عليه على وجه لا يحتمل السقوط بعده أصلا ، فصارت شهادتهما مؤكدة للواجب ، والمؤكد للواجب بمنزلة الواجب في الشرع ، كالمحرم إذا أخذ صيدا فذبحه رجل في يده يجب الجزاء على الآخذ ، ويرجع الآخذ بذلك على القاتل لوقوع القتل منه تأكيدا للجزاء الواجب على المحرم ، إذ لولا ذبحه لاحتمل السقوط بالإرسال ، فهو بالذبح أكد الواجب عليه فنزل المؤكد منه منزلة الواجب كذا هذا ، وعلى هذا إذا شهدا على رجل أنه أعتق عبدا أو أمة له ، وهو ينكر فقضى القاضي ، ثم رجعا يضمنان قيمة العبد أو الأمة لمولاه ; لأنهما بشهادتهما أتلفا عليه مالية العبد أو الأمة فيضمنان ، ويكون ولاؤه للمولى ; لأن الإعتاق نفذ عليه والولاء لمن أعتق ، فإن قيل : " هذا إتلاف بعوض وهو الولاء فلا يوجب الضمان " قيل له : " الولاء لا يصلح عوضا ; لأنه ليس بمال ، وإنما هو من أسباب الإرث فكان هذا إتلافا بغير عوض فيوجب الضمان " .

ولو شهدا على إقرار المولى أن هذه الأمة ولدت منه ، وهو منكر فقضى القاضي بذلك ، ثم رجعا فنقول هذا في الأصل لا يخلو من [ ص: 284 ] أحد وجهين : إما أن لم يكن معها ولد ، وإما أن كان معها ولد ، وكل ذلك لا يخلو إما أن رجعا في حال حياة المولى ، وإما أن رجعا بعد وفاته ، أما إذا لم يكن معها ولد ورجعا في حال حياة المولى يضمنان للمولى نقصان قيمتها ، فتقوم أمة قنا وتقوم أم ولد : لو جاز بيعها فيضمنان النقصان ; ; لأنهما أتلفا عليه بشهادتهما هذا القدر حال حياته فيضمنانه ، فإذا مات المولى عتقت الجارية ; لأنها أم ولده ، وأم الولد تعتق بموت سيدها ، ويضمنان بقية قيمتها للورثة ; لأنهما أتلفا بشهادتهما كل الجارية ، لكن بعضها في حال الحياة ، والباقي بعد الوفاة فيضمنان ، كذلك وإن كان معها ولد ورجعا في حال حياة المولى فإنهما يضمنان قيمة الولد ; لأنهما أتلفاه عليه .

ألا ترى أنه لولا شهادتهما لكان الولد عبدا له ، فهما بشهادتهما أتلفاه عليه فعليهما الضمان ، وعليهما ضمان نقصان قيمة الأم أيضا لما قلنا ، فإذا مات المولى بعد ذلك لم يكن مع الولد شريك في الميراث فلا يضمنان له شيئا ، ويرجعان على الولد بما قبض الأب منهما ; لأن في زعم الولدان رجوعهما باطل وأن ما أخذ الأب منهما أخذه بغير حق فصار مضمونا عليه فيؤدي من تركته إن كانت له تركة ، وإن لم يكن له تركة فلا ضمان على الولد ; لأن من أقر على مورثه بدين وليس للميت تركة لا يؤخذ من مال الوارث ، وإن كان معه أخ فإنهما يضمنان للأخ نصف البقية من قيمتها ; لأنهما أتلفا عليه ذلك القدر ، ويرجعان على الولد بما أخذه الأب منهما لما قلنا ، ولا يرجعان بما قبض الأخ ; لأن الأخ ظلم عليهما في زعمهما فليس لهما أن يظلما عليه ، ولا ضمان للأخ ما أخذ هذا من الميراث ; لأنهما ما أتلفا عليه الميراث لما نذكر إن شاء الله تعالى ، هذا إذا كان الرجوع في حال حياة المولى ، فأما إذا كان بعد وفاته ، فإن لم يكن مع الولد شريك في الميراث فلا ضمان عليهما ; لأن الولد يكذبهما في الرجوع ، وإن كان معه شريك في الميراث فإنهما يضمنان للأخ نصف البقية من قيمتهما لما قلنا ، ويضمنان للأخ نصف قيمة الولد ; ; لأنهما أتلفا عليه نصف الولد ، ولا يضمنان له ما أخذ هذا الولد من الميراث لما قلنا ، ولا يرجعان على الولد ههنا ; لأن هذا ظلم للأخ في زعمهما فليس لهما أن يظلما الولد ، هذا إذا كانت الشهادة في حال حياة المولى والرجوع عليه في حال حياته أو بعد وفاته .

فأما إذا كانت الشهادة بعد وفاته بأن مات رجل وترك ابنا وعبدا وأمة وتركة ، فشهد شاهدان أن هذا العبد ولدته هذه الأمة من الميت ، وصدقهما الولد والأمة ، وأنكر الابن فقضى القاضي بذلك وجعل الميراث بينهما ثم رجعا : يضمنان قيمة العبد والأمة ونصف الميراث للابن ، فرق بين حال الحياة وبين حال الممات ، فإن هناك لا يضمنان الميراث ، ووجه الفرق أن الشهادة بالنسب حال الحياة لا تكون شهادة بالمال والميراث لا محالة ; لأنه يجوز فيه التقدم والتأخر ، فمن الجائز أن يموت الأب أولا فيرثه الابن ، كما يجوز أن يموت الابن أولا ويرثه الأب ، فلم تكن الشهادة بالنسب شهادة بالمال والميراث لا محالة ، فلا تتحقق الشهادة إتلافا للمال فلا يضمنان ، بخلاف الشهادة بعد الموت فإنها شهادة بالمال لا محالة فقد أتلفا عليه نصف الميراث فيضمنان ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

ولو شهدا أنه دبر عبده فقضى القاضي بذلك ، ثم رجعا : يضمنان للمولى نقصان التدبير ، فيقوم قنا ، ويقوم مدبرا فيضمنان النقصان ; لأنهما أتلفا عليه حال حياته بشهادتهما هذا القدر فيضمنانه فإذا مات المولى بعد ذلك عتق العبد كله إن كان يخرج من الثلث ، ولا سعاية عليه ; لأنه مدبره ، ويضمنان للورثة بقية قيمته عبدا ; لأنهما أتلفا بشهادتهما بقية ماليته بعد موته ; لأن التدبير إعتاق بعد الموت ، ولو لم يكن له مال سوى المدبر عتق عليه مجانا ; لأن التدبير وصية فيعتبر بسائر الوصايا ، ويسعى في ثلثي قيمته عبدا قنا للورثة ; لأن الوصية فيما زاد على الثلث لا تنفذ من غير إجازة الورثة ، ويضمن الشاهد أن للورثة ثلث قيمته ; لأنهما أتلفا عليه بشهادتهما ثلث العبد ، هذا إذا كانت السعاية تخرج من ثلث العبد ، فإن كانت لا تخرج بأن كان معسرا فإنهما يضمنان جميع قيمته مدبرا ، ثم يرجعان على العبد بثلثي قيمته إذا أيسر ولو شهدا أنه قال لعبده : " إن دخلت الدار فأنت حر ، وشهد آخران بالدخول ، ثم رجعوا فالضمان على شهود اليمين ; لأن العتق ثبت بقوله أنت حر ، وإنما الدخول شرط ، والحكم يضاف إلى العتق لا إلى الشرط ، فكان التلف حاصلا بشهادتهما فكان الضمان عليهما ، وكذلك إذا شهدا أنه قال لامرأته : " إن دخلت الدار فأنت طالق " ، وشهد آخران بالدخول ثم رجعوا لما قلنا ، وكذلك لو شهدا على رجل [ ص: 285 ] بالزنا وشهد آخران بالإحصان ثم رجعوا ، فالضمان على شهود الزنا لا على شهود الإحصان ; لأن الإحصان شرط ولو شهدا أنه قتل فلانا خطأ ، وقضى القاضي ثم رجعا ضمنا الدية ; لأنهما أتلفاها عليه وتكون في مالهما ; لأن الشهادة منهما بمنزلة الإقرار منهما بالإتلاف ، والعاقلة لا تعقل الإقرار كما لو أقرا صريحا ، ولهذا لو رجعا في حال المرض اعتبر إقرارا بالدين حتى يقدم عليه دين الصحة كما في سائر الأقارير ، وكذا لو شهدا أنه قطع يد فلان خطأ ، وقضى القاضي ، ثم رجعا ضمنا دية اليد لما قلنا .

وكذا لو شهدا عليه بالسرقة فقضى عليه بالقطع فقطعت يده ثم رجعا ، فقد روي أن شاهدين شهدا عند سيدنا علي كرم الله وجهه على رجل بالسرقة فقضى عليه بالقطع فقطعت يده ، ثم جاء الشاهدان بآخر فقالا : " أوهمنا أن السارق هذا يا أمير المؤمنين " فقال سيدنا علي رضي الله عنه : " لا أصدقكما على هذا وأغرمكما دية يد الأول ، ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا ولو شهدا أنه قتل فلانا عمدا فقضى القاضي وقتل ، ثم رجعا فعليهما الدية عندنا ، وعند الشافعي - رحمه الله - عليهما القصاص ، وعلى هذا الخلاف إذا شهدا أنه قطع يد فلان ، ( وجه ) قول الشافعي - رحمه الله - أن شهادتهما وقعت قتلا تسبيبا ; لأنها تفضي إلى وجوب القصاص ، وإنه يفضي إلى القتل فكانت شهادتهما تسبيبا إلى القتل ، والتسبيب في باب القصاص في معنى المباشرة كالإكراه على القتل .

( ولنا ) أن نسلم أن الشهادة وقعت تسبيبا إلى القتل لكن وجوب القصاص يتعلق بالقتل مباشرة لا تسبيبا ; لأن ضمان العدوان الوارد على حق العبد مقيد بالمثل شرعا ، ولا مماثلة بين القتل مباشرة وبين القتل تسبيبا ، بخلاف الإكراه على القتل ; لأن القاتل هو المكره مباشرة لكن بيد المكره وهو كالآلة ، والفعل لمستعمل الآلة لا للآلة على ما عرف على أن ذلك وإن كان قتلا تسبيبا فهو مخصوص عن نصوص المماثلة فمن ادعى تخصيص الفرع يحتاج إلى الدليل .

وعلى هذا يخرج ما إذا شهدا على ولي القتيل أنه عفا عن القتل وقضى القاضي ، ثم رجعا : أنه لا ضمان عليهما في ظاهر الرواية ; ; لأنه لم يوجد منهما إتلاف المال ولا النفس ; لأن شهادتهما قامت على العفو عن القصاص ، والقصاص ليس بمال ، ألا ترى أنه لو أكره رجلا على العفو عن القصاص فعفا لا يضمن المكره ، ولو كان القصاص مالا يضمن ; لأن المكره يضمن بالإكراه على إتلاف المال وكذا من وجب له القصاص وهو مريض فعفا ، ثم مات في مرضه ذلك لا يعتبر من الثلث ولو كان مالا اعتبر من الثلث ، كما إذا تبرع في مرضه ، وعن أبي يوسف - رحمه الله - أنهما يضمنان الدية لولي القتيل ; لأن شهادتهما إتلاف للنفس ; ; لأن نفس القاتل تصير مملوكة لولي القتيل في حق القصاص ، فقد أتلفا بشهادتهما على المولى نفسا تساوي ألف دينار أو عشرة آلاف درهم فيضمنان ، وهذا غير سديد ; لأنا لا نسلم أن نفس القاتل تصير مملوكة لولي القتيل ، بل الثابت له ملك الفعل لا ملك المحل ; لأن في المحل ما ينافي الملك لما علم في مسائل القصاص فلم تقع شهادتهما إتلاف النفس ولا إتلاف المال فلا يضمنان .

ولو شهدا أن هذا الغلام ابن هذا الرجل ، والأب يجحده فقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا لا يبطل النسب ، ولا ضمان على الشاهدين لانعدام إتلاف المال منهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية