بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
ومنها : أن لا يقبل الهدية من أحدهما ، إلا إذا كان لا يلحقه به تهمة .

وجملة الكلام فيه : أن المهدي لا يخلو إما أن يكون رجلا كان يهدي إليه قبل تقليد القضاء ، وإما أن كان لا يهدي إليه ، فإن كان لا يهدي إليه ، فإما إن كان قريبا له أو أجنبيا ، فإن كان قريبا له ينظر إن كان له خصومة في الحال ، فإنه لا يقبل ; لأنه يلحقه التهمة ، وإن كان لا خصومة له في الحال يقبل ; لأنه لا تهمة فيه ، وإن كان أجنبيا [ ص: 10 ] لا يقبل ، سواء كان له خصومة في الحال ، أو لا ; لأنه إن كان له خصومة في الحال ، كان بمعنى الرشوة ، وإن لم يكن ; فربما يكون له خصومة في الحال يأتي بعد ذلك ، فلا يقبل ولو قبل يكون لبيت المال ، هذا إذا كان الرجل لا يهدي إليه قبل تقليد القضاء ، فأما إذا كان يهدي إليه ، فإن كان له في الحال خصومة لا تقبل ; لأنه يتهم فيه .

وإن كان لا خصومة له في الحال ، ينظر إن كان أهدى مثل ما كان يهدي أو أقل يقبل ; لأنه لا تهمة فيه ، وإن كان أكثر من ذلك يرد الزيادة عليه ، وإن قبل كان لبيت المال ، وإن لم يقبل للحال حتى انقضت الخصومة ثم قبلها ، لا بأس به ، ومنها : أن لا يجيب الدعوة الخاصة ، بأن كانوا خمسة أو عشرة ; لأنه لا يخلو من التهمة ، إلا إذا كان صاحب الدعوة ممن كان يتخذ له الدعوة قبل القضاء ، أو كان بينه وبين القاضي قرابة ، فلا بأس بأن يحضر إذا لم يكن له خصومة ; لانعدام التهمة ، فإن عرف القاضي له خصومة لم يحضرها .

وأما الدعوة العامة : فإن كانت بدعة ، كدعوة المباراة ونحوها ; لا يحل له أن يحضرها لأنه لا يحل لغير القاضي إجابتها فالقاضي أولى ، وإن كانت سنة كوليمة العرس والختان ، فإنه يجيبها ; لأنه إجابة السنة ، ولا تهمة فيه .

ومنها : أن لا يلقن أحد الخصمين حجته ; لأن فيه مكسرة قلب الآخر ; ولأن فيه إعانة أحد الخصمين ، فيوجب التهمة ، غير أنه إن تكلم أحدهما ، أسكت الآخر ; ليفهم كلامه ومنها : أن لا يلقن الشاهد ، بل يتركه يشهد بما عنده ، فإن أوجب الشرع قبوله قبله ، وإلا رده ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد ، وهو قول أبي يوسف الأول ، ثم رجع وقال : لا بأس بتلقين الشاهد بأن يقول : أتشهد بكذا وكذا وجه قوله أن من الجائز أن الشاهد يلحقه الحصر ; لمهابة مجلس القضاء ، فيعجزه عن إقامة الحجة ، فكان التلقين تقويما لحجة ثابتة فلا بأس به ، ولهما أن القاضي يتهم بتلقين الشاهد فيتحرج عنه ومنها : أن لا يعبث بالشهود ; لأن ذلك يشوش عليهم عقولهم فلا يمكنهم أداء الشهادة على وجهها ، وإذا اتهم الشهود فلا بأس بأن يفرقهم عند أداء الشهادة ، فيسألهم أين كان ومتى كان ؟ فإن اختلفوا اختلافا يوجب رد الشهادة ; ردها وإلا فلا ، ويشهد القاضي الجنازة ; لأن ذلك حق الميت على المسلمين ، فلم يكن متهما في أداء سنة فيحضرها ، إلا إذا اجتمعت الجنائز على وجه : لو حضرها كلها لشغله ذلك عن أمور المسلمين فلا بأس أن لا يشهد ; لأن القضاء فرض عين ، وصلاة الجنازة فرض كفاية ، فكان إقامة فرض العين عند تعذر الجمع بينهما أولى .

ويعود المريض أيضا ; لأن ذلك حق المسلمين على المسلمين ، فلا يلحقه التهمة بإقامته ويسلم على الخصوم إذا دخلوا المحكمة ; لأن السلام من سنة الإسلام - وكان شريح يسلم على الخصوم - لكن لا يخص أحد الخصمين بالتسليم عليه دون الآخر ، وهذا قبل جلوسه في مجلس الحكم ، فأما إذا جلس لا يسلم عليهم ، ولا هم يسلمون عليه ، أما هو فلا يسلم عليهم ; لأن السنة أن يسلم القائم على القاعد ، لا القاعد على القائم ، وهو قاعد وهم قيام .

وأما هم فلا يسلمون عليه ; لأنهم لو سلموا عليه لا يلزمه الرد ; لأنه اشتغل بأمر هو أهم وأعظم من رد السلام ، فلا يلزمه الاشتغال كذا ذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني في رجل يقرأ القرآن ، فدخل عليه آخر : أنه لا ينبغي له أن يسلم عليه ، ولو سلم عليه لا يلزمه الجواب ، وكذا المدرس إذا جلس للتدريس لا ينبغي لأحد أن يسلم عليه ، ولو سلم لا يلزمه الرد ; لما قلنا ، بخلاف الأمير إذا جلس فدخل عليه الناس ، إنهم يسلمون عليه وهو السنة ، وإن كان سلاطين زماننا يكرهون التسليم عليهم وهو خطأ منهم ; لأنهم جلسوا للزيارة ، ومن سنة الزائر التسليم على من دخل عليه .

وأما القاضي فإنما جلس للعبادة لا للزيارة ، فلا يسن التسليم عليه ، ولا يلزمه الجواب إن سلموا ، لكن لو أجاب جاز .

ومنها : أن يسأل القاضي عن حال الشهود ، فيما سوى الحدود والقصاص ، وإن لم يطعن الخصم ، وهو من آداب القاضي عند أبي حنيفة رحمه الله ; لأن القضاء بظاهر العدالة ، وإن كان جائزا عنده فلا شك أن القضاء بالعدالة الحقيقية أفضل .

وأما عندهما فهو من واجبات القضاء ، وكذا إذا طعن الخصم عنده في غير الحدود والقصاص ، وفي الحدود والقصاص طعن أو لم يطعن ، ثم القضاة من السلف كانوا يسألون بأنفسهم عن حال الشهود من أهل محلتهم ، وأهل سوقهم ، وإن كان الشاهد سوقيا ممن هو أتقى الناس ، وأورعهم ، وأعظمهم أمانة ، وأعرفهم بأحوال الناس ظاهرا أو باطنا ، والقضاة في زماننا نصبوا للعدل ، تيسيرا للأمر عليهم ; لما يتعذر على القاضي طلب المعدل في كل شاهد ، فاستحسنوا نصب العدل .

التالي السابق


الخدمات العلمية