بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان حكم القسمة فنقول - وبالله التوفيق : حكم القسمة ثبوت اختصاص بالمقسوم عينا تصرفا فيه فيملك المقسوم له في المقسوم جميع التصرفات المختصة بالملك ، حتى لو وقع في نصيب أحد الشريكين ساحة لا بناء فيها ، ووقع البناء في نصيب الآخر فلصاحب الساحة أن يبني في ساحته ، وله أن يرفع بناءه ، وليس لصاحب البناء أن يمنعه ، وإن كان يفسد عليه الريح والشمس ; لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا يمنع عنه ، وكذا له أن يبني في ساحته مخرجا أو تنورا أو حماما أو رحى ; لما قلنا ، وكذا له أن يقعد في بنائه حدادا ، أو قصارا ، وإن كان يتأذى به جاره ; لما قلنا ، وله أن يفتح بابا أو كوة ; لما ذكرنا ألا ترى أن له أن يرفع الجدار أصلا ففتح الباب والكوة أولى ، وله أن يحفر في ملكه بئرا أو بالوعة أو كرباسا ، وإن كان يهي بذلك حائط جاره ، ولو طلب جاره تحويل ذلك ; لم يجبر على التحويل ، ولو سقط الحائط من ذلك [ ص: 29 ] لا يضمن ; لأنه لا صنع منه في ملك الغير ، والأصل أن لا يمنع الإنسان من التصرف في ملك نفسه إلا أن الكف عما يؤذي الجار أحسن .

قال الله تبارك وتعالى { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } إلى قوله تعالى { والجار الجنب } خصه سبحانه وتعالى بالأمر بالإحسان إليه ، فلئن لا يحسن إليه فلا أقل من أن يكف عنه أذاه .

وعلى هذا دار بين رجلين ، ولرجل فيها طريق فأرادا أن يقتسماها ، ليس لصاحب الطريق منعهما عن القسمة ; لأنهما بالقسمة متصرفان في ملك أنفسهما فلا يمنعان عنه ، فيقتسمان ما وراء الطريق ، ويتركان الطريق على حاله على سعة عرض باب الدار ; لما ذكرنا من قبل .

ولو باعوا الدار والطريق فإن كانت رقبة الطريق مشتركة بينهم ; قسموا ممر الطريق بينهم أثلاثا ، وإن كانت الرقبة لشريكي الدار ولصاحب الطريق حق المرور ، حكى القدوري عن الكرخي - رحمهما الله - أن لا شيء لصاحب الطريق من الثمن ، ويكون الثمن كله للشريكين ، وروى محمد أن كل واحد من الشريكين يضرب بحقه من المنفعة ، ويضرب صاحب الطريق بحق المرور ، وطريق معرفة ذلك أن ينظر إلى قيمة العرصة بغير طريق ، وينظر إلى قيمتها وفيها طريق ، فيكون لصاحب الطريق فضل ما بينهما ، ولكل واحد من الشريكين نصف قيمة المنفعة إذا كان فيها طريق .

( وجه ) ما حكي عن الكرخي - رحمه الله - أن حق المرور لا يحتمل البيع مقصودا بل يحتمله تبعا للرقبة ، ألا ترى أنه لو باعه وحده لم يجز ، فإذا بيع الطريق بإذنه فقد أسقط حقه أصلا فلا يقابله ثمن .

( وجه ) ما روي عن محمد أن حق المرور لا يحتمل البيع مقصودا بل يحتمله تبعا للرقبة ، وههنا ما بيع مقصودا بل تبعا للرقبة فيقابله الثمن ، لكن ثمن الحق لا ثمن الملك على ما ذكرنا .

وكذلك دار بين رجلين فيها مسيل الماء ، فأرادا أن يقتسماها ليس لصاحب المسيل منعهما من القسمة ; لما قلنا ، بل يقسم الدار ويترك المسيل على حاله كما في الطريق ، وكذلك لو كان في الدار منزل لرجل وطريقه في الدار ، فأرادا أن يقتسما الدار لا يمنعان من القسمة ، ولكن يتركان طريق المنزل على حاله على سعة عرض باب الدار ، لا على سعة باب المنزل على ما ذكرنا ، ولو أراد صاحب المنزل أن يفتح إلى هذا الطريق بابا آخر له ذلك ; لأنه متصرف في ملك نفسه ، ألا ترى أن له أن يرفع الحائط كله فهذا أولى ، ولو اشترى صاحب المنزل دارا من وراء المنزل وفتح بابه إلى المنزل ، فإن كان ساكن الدار والمنزل واحدا فله أن يمر من الدار إلى المنزل ، ومن المنزل إلى الطريق الذي في الدار الأولى ; لأن له حق المرور في هذا الطريق ، وإن كان ساكن الدار غير ساكن المنزل فليس لساكن الدار أن يمر في الطريق الذي في الدار الأولى ; لأنه لا حق له في هذا الطريق فيمنع من المرور فيه .

دار بين رجلين في سكة غير نافذة اقتسماها ، وأخذ كل واحد منهما طائفة منها ، فأراد كل واحد منهما أن يفتح بابا أو كوة إلى السكة له ذلك ، ولا يسع لأهل السكة منعهما ; لأن كل واحد منهما متصرف في ملك نفسه فيملكه ، ألا ترى أن له رفع الحائط أصلا فالباب والكوة أولى .

وعلى هذا حائط بين قسيمين ولأحد القسيمين عليه جذوع الحائط الآخر فإن شرطوا قطع الجذوع في القسمة قطعه ; لقول النبي عليه الصلاة والسلام : { المسلمون عند شروطهم } .

وإن لم يشترطوا ترك على حالها ; لأن الترك وإن كان ضررا لكنهم لما لم يشترطوا القطع في القسمة فقد التزم الضرر وكذلك لو كان وقع على هذا الحائط درجة أو أسطوانة جمع عليها جذوع ; لما قلنا ، وكذلك روشنا وقع لصاحب العلو شرفا على نصيب الآخر لم يكن لصاحب السفل أن يقلع الروشن من غير شرط القلع لما قلنا ، ولو كان لأحدهما أطراف خشب على حائط صاحبه ، فإن كان مما يمكن أن يجعل عليها سقف لم يكلف قلعها ، وإن كان لا يمكن كلف القلع ; لأنه إذا أمكن أن يجعل عليها سقف أمكنه الانتفاع به فيلتحق بالحقوق ، فأشبه الروشن وإذا لم يمكن تعذر إلحاقها بالحقوق فبقي شاغلا هو لصاحبه بغير حق ، فيكلف قطعها ، ولو كان لأحدهما شجرة أغصانها مظلة على نصيب الآخر فهل تقطع ؟ ذكر ابن سماعة - رحمه الله - أنه لا تقطع ; لأن في القطع ضررا لصاحبها ، وذكر ابن رستم - رحمه الله - أنه تقطع كما يقطع أطراف الخشب الذي لا يمكن تسقيفها ، ولو اختلف أهل طريق في الطريق ، وادعى كل واحد منهم أنه له ; فهو بينهم بالتسوية على عدد الرءوس ، لا على ذرعان الدور والمنازل ; لأنهم استووا في اليد ; لاستوائهم في المرور فيه إلا أن يقوم لأحدهم بينة فيسقط اعتبار اليد بالبينة .

دار لرجل وفيها طريق بينه وبين [ ص: 30 ] رجل فمات صاحب الدار ، فاقتسمت الورثة الدار بينهم ، وتركوا الطريق كان الطريق بينه وبين الرجل نصفين لا على عدد الرءوس ، حتى لو باعوا الدار يقسم الثمن بين الورثة وبينه نصفين لا على عدد الرءوس ; لأن الورثة قاموا مقام المورث ، وقد كان الطريق بينهما نصفين فكذا بينه وبينهم ، ولو لم يعرف أن الدار ميراث بينهم وجحدوا ذلك فالطريق بينهم بالسوية على عدد الرءوس ; لاستوائهم في اليد على ما مر ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية