بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

صفحة جزء
( فصل ) :

وأما بيان ما يوجب نقض القسمة بعد وجودها فنقول - وبالله التوفيق : الذي يوجب نقض القسمة بعد وجودها أنواع : ( منها ) ظهور دين على الميت ; إذا طلب الغرماء ديونهم ولا مال للميت سواه ، ولا قضاه الورثة من مال أنفسهم ، وبيان ذلك : أن الورثة إذا اقتسموا التركة ثم ظهر على الميت دين فهذا لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون للميت مال آخر سواه ، وإما أن لم يكن ، فإن لم يكن له مال سواه ، ولا قضاه الورثة من مال أنفسهم ; تنقض القسمة سواء كان الدين محيطا بالتركة أو لم يكن ; لأن الدين مقدم على الإرث قليلا كان أو كثيرا ، قال الله - تبارك وتعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } .

قدم سبحانه وتعالى الدين على الوصية من غير فصل بين القليل والكثير ; لأن الدين إذا كان محيطا بالتركة ; تبين أنه لا ملك للورثة فيها إلا من حيث الصورة بل هي ملك للميت يتعلق بها بحق الغرماء ، وقيام ملك الغير في المحل يمنع صحة القسمة ، فقيام الملك والحق أولى .

وإذا لم يكن محيطا بالتركة فملك الميت وحق الغرماء - وهو حق الاستيفاء - ثابت في قدر الدين من التركة على الشيوع ، فيمنع جواز القسمة فإن لم يكن للميت مال آخر سواه يجعل الدين فيه ، وتمضي القسمة ; لأن القسمة تصان عن النقض ما أمكن ، وقد أمكن صيانتها بجعل الدين فيه ، وكذا الورثة إذا قضوا الدين من مال أنفسهم لا تنقض ; لأن حق الورثة كان متعلقا بصورة التركة ، وحق الغرماء بمعناها وهو المالية ، فإذا قضوا الدين من مال أنفسهم فقد استخلصوا التركة لأنفسهم صورة ومعنى ، فتبين أنهم في الحقيقة اقتسموا مال أنفسهم صورة ومعنى ، فتبين أنها وقعت صحيحة فلا تنقض ، وكذلك إذا أبرأه الغرماء من ديونهم لا تنقض القسمة ; لأن النقض لحقهم وقد أسقطوه بالإبراء ، وكذلك إذا ظهر لبعض المقتسمين دين على الميت ، بأن ادعى دينا على الميت وأقام البينة عليه ; فله أن ينقض القسمة ; لما قلنا ، ولا تكون قسمته إبراء من الدين ; لأن حق الغريم يتعلق بمعنى التركة وهو ماليتها لا بالصورة ، ولهذا كان للورثة حق الاستخلاص ، وإذا كان كذلك فلا يكون إقدامه على القسمة إقرارا منه ; لأنه لا دين له على الميت فلم يكن مناقضا في دعواه فسمعت .

( ومنها ) ظهور الوصية حتى لو اقتسموا ثم ظهر ثم موصى له بالثلث ; نقضت قسمتهم ; لأن الموصى له شريك الورثة ، ألا ترى أنه لو هلك من التركة شيء قبل القسمة يهلك من الورثة والموصى له جميعا ، والباقي على الشركة بينهم ، ولو اقتسموا وثمة وارث آخر غائب تنقض ، فكذا هذا ، وهذا إذا كانت القسمة بالتراضي ، فإن كانت بقضاء القاضي لا تنقض ; لأن الموصى له وإن كان كواحد من الورثة ، لكن القاضي إذا قسم عند غيبة أحد الورثة لا تنقض قسمته ; لأن القسمة في هذا الموضوع محل الاجتهاد ، وقضاء القاضي إذا صادف محل الاجتهاد ينفذ ولا ينقض .

( ومنها ) ظهور الوارث حتى لو اقتسموا ثم ظهر أن ثمة وارث آخر ; نقضت قسمتهم ، ولو كانت القسمة بقضاء القاضي لا تنقض ; لما ذكرنا ، ولو ادعى وارث وصية لابن له صغير بعد القسمة لا تصح دعواه ، حتى لا تسمع منه البينة ; لكونه مناقضا في الدعوى إذ لا تصح قسمتهم الميراث وثم موصى له ، فكان إقدامه على القسمة إقرارا منه بانعدام الوصية ، فكان دعوى وجود الوصية مناقضة فلا تسمع ، ولكن لا يبطل حق الصغير بقسمة الأب ; لأنه لا يملك إبطال حقه ، وكذلك لو ادعى بعض الورثة أن أخا له من أبيه وأمه ورث أباه معهم ، وأنه مات بعد موت الأب وورثه هذا المدعي ، وجحد الباقون ذلك ، فأقام المدعي البينة لا تقبل بينته ; لأنه هنا قضي في دعواه ; لدلالة إقراره بانعدام وارث آخر بإقدامه على القسمة ، وكذلك كل ميراث يدعيه أو شراء أو هبة أو صدقة أو وصية بعد القسمة ; للتناقض بدلالة الإقدام على القسمة ، والله - تعالى - أعلم .

دار بين رجلين أقر أحدهما ببيت منها لرجل ، وأنكر الآخر يصح إقراره ; لأن إقرار الإنسان حجة على نفسه ; لأن هذا الإقرار لم يوجب تعلق الحق بالعين لحق الشريك الآخر بل هو موقوف ، وإذا لم يتعلق بالعين [ ص: 31 ] لا يمنع جواز القسمة فتقسم الدار ويجبر على القسمة ، ومتى قسمت فإن وقع البيت المقر به في نصيب المقر دفعه إلى المقر له ; لأن الإقرار قد صح وتسليم عين المقر به ممكن ، فيؤمر بالتسليم ، وإن وقع في نصيب شريكه يدفع إليه قدر ذرع المقر به من نصيب نفسه ، فيقسم ما أصابه بينه وبين المقر له ، فيضرب المقر له بذرع البيت ويضرب المقر بنصف ذرع الدار بعد البيت ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف - عليهما الرحمة - وقال محمد - رحمه الله - يضرب المقر بنصف ذرع الدار كما قالا ، ولكن المقر له يضرب بنصف ذرع البيت لا بكله ، حتى لو كان ذرع الدار مائة ، وذرع البيت عشرة ، فتقسم الدار بينهما نصفين ، يكون للمقر له عشرة أذرع عندهما ; لأنه جميع ذرع البيت والباقي - وهو خمسة وأربعون - للمقر ; لأنه نصف ذرع الدار بعد ذرع البيت ، وعند محمد - رحمه الله - يكون للمقر له خمسة أذرع ، إذ هو نصف ذرع البيت المقر به .

( وجه ) قول محمد - رحمه الله - أن الإقرار صادف محلا معينا مشتركا بينه وبين غيره ; لأن كل جزأين من الدار أحدهما له ، والآخر لصاحبه على الشيوع فيبطل في نصيب صاحبه ويصح في نصيبه ، وذلك يوجب للمقر له نصف ذرع البيت .

( وجه ) قولهما أن الإقرار بالمشترك لا يتعلق بالعين قبل القسمة بل هو موقوف ، وإنما يتعلق بهما بعد القسمة ، ألا ترى أنه لم يمنع صحة القسمة ، ولو تعلق بالعين لمنع ، فإذا قسمت الدار الآن يتعلق بالعين ، فإن وقع المقر به في نصيب المقر يؤمر بالتسليم ; لأنه قادر على تسليم العين وإن وقع في نصيب صاحبه فقد عجز عن تسليم عينه فيؤمر بتسليم بدله من نصيبه ، وهو تمام ذرع المقر به ، هذا إذا كان المقر به شيئا يحتمل القسمة ، فإن كان مما لا يحتمل القسمة ، كبيت من حمام مشتركة بينه وبين غيره أقر أنه لرجل وأنكر صاحبه فيصح إقراره ، ولكن يجبر على قسمته ; لأن قسمة الإضرار فيما لا يحتمل الجبر على ما ذكرناه في موضعه ، ويلزمه نصف قيمة البيت ; لأنه عجز عن تسليم العين والإقرار بعين معجوز التسليم يكون إقرارا ببدله تصحيحا لتصرفه ، وصيانة لحق الغير بالقدر الممكن ، كالإقرار بجذع في الدار ، والله - تعالى - أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية